مذكرات كيري وانتظار غودو الأمريكي

مذكرات كيري وانتظار غودو الأمريكي
صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية مذكرات وزير خارجيتها الأسبق جون كيري، في 640 صفحة وتحت عنوان "Every Day is Extra"، حيث تطرق فيها مطولاً للشأن السوري، كما أكدت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، مسربة بعض المقتطفات منها. 

هذه ليست المرة الأولى التي يصحو فيها ضمير مسؤول أمريكي شغل أعلى منصب في تلك الوزارة المهمة، ويكشف بعض الأمور السرية الحساسة؛ فقد سبقه هنري كيسنجر ومادلين أولبرايت وهيلاري كلينتون وغيرهم، كانوا قد شغلوا نفس المنصب فيما مضى. ولكن ماذا يمكن أن تقدم هذه المذكرات بعدما فات أوانها، ولم تعد تؤثر في شيء؛ والتي كان صاحبها في يوم من الأيام قادراً على استثمارها لصالح السوريين، من أجل تغيير مجرى الأحداث الكارثية التي عصفت بهم، نتيجة تخاذل المجتمع الدولي، وضعف رئيسه أوباما حينذاك، وإصابته بالشلل الوظيفي تجاه قضيتنا الشائكة؟. 

بدأت حكاية المذكرات في أوائل عام 2017، عندما ذكرت جريدة "Politico" أن كيري قد وكل المحامي الشهير بوب بارنيت، ليتفاوض مع الناشرين على طباعتها، مضيفة بأنها "ستكون ذكريات شخصية للغاية، تظهر للقارئ كيف يتم اتخاذ القرارات التاريخية، وتعرفه على بعض الشخصيات المؤثرة التي عرفها جيداً" صاحب المذكرات، الذي ترأس وزارة الخارجية الأمريكية من 1 شباط 2013 حتى 20 كانون الثاني 2017. 

كان كيري دبلوماسياً مؤثراً، حيث استطاع أن يجلس ممثلين عن إسرائيل وفلسطين إلى طاولة محادثات السلام في 2013-2014. كذلك لعب أحد الأدوار الرئيسة في مفاوضات الدول الست حول الملف النووي الإيراني، وفي مفاوضات أخرى على أعلى مستوى سياسي، خصوصاً، فيما يتعلق بالأزمتين الأوكرانية والسورية، لكنه فشل فيهما فشلاً ذريعاً، إذ لم يستطع (هذا الكيري) وقف الإبادة الجماعية بحق السوريين، ولا وقف احتلال روسيا لجزء من أوكرانيا، رغم أنه كان باستطاعة دولته الضغط على الروس أكثر، وفعل هذا..

هذه المذكرات لن تجلب سوى الأسى والحسرة والمرارة للسوريين، ولن ترد لهم اعتبارهم، حتى ولو اعترف مؤلفها بأن بلده قد دفع "ثمن عدم تنفيذ تهديدات الخط الأحمر" الأوبامية؛ وأن سورية ستبقى "جرحاً مفتوحاً" بالنسبة له؛ وقضية "يفكر فيها كل يوم"؛ إضافة لوصفه الأسد وفضح حقيقته الكاذبة دون رتوش، قائلاً: "بإمكان الرجل الذي يستطيع أن يكذب عليك في وجهك على بعد 4 أقدام منك، أن يكذب بسهولة على العالم بعد أن قام برش الغازات المميتة على شعبه"!

هنا لا يسعني سوى أن أُذكر كيري بمقال فريدريك هوف ـ مدير مركز الحريري للشرق الأوسط في المجلس الأطلسي، ومستشار وزارة الخارجية الأمريكية الخاص السابق لعملية الانتقال السياسي في سورية عام 2012، الذي يحمل العنوانPutin V. Russia In Syria، ونشر في موقع "هافينغتون بوست"- * (10/03/2016)  بأن رغم معرفته ومعرفة محاوريه الروس بـ «الدور الذي لعبه هذا النظام في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في نقل المقاتلين الأجانب من مطار دمشق إلى العراق، لينضموا إلى صفوف تنظيم "القاعدة في العراق" - السلف المباشر لـ "داعش". ومعرفتهم بأن النظام قد أطلق سراح العديد من المتطرفين السياسيين من السجون عام 2011، على أمل أن يتسللوا إلى صفوف المعارضة السلمية والقومية والعلمانية التي انتفضت ضد نظام الأسد الوحشي، وفي النهاية أخذوا زمام المبادرة هناك، ومعرفتهم كيف تم خلق فراغ في السلطة بسبب تجاوزات النظام السوري في شرق سورية، حيث قامت "داعش" بشغله. وأن استراتيجية بقاء النظام، التي تتمثل في الإبادة الجماعية للسكان، لذلك تم تسهيل عمل مجندي "داعش" على أراضي سورية، وداخل المجتمعات السنية في جميع أنحاء العالم»؛ إلا أنه استمر في العمل معهم، استناداً إلى فكرة طوباوية محضة تتلخص بإمكان "إقناع روسيا بالتعاون من أجل إزالة الأسد من السلطة في نهاية المطاف".   

حاول الروس بخبث وتضليل دعم هذه الفكرة وجعلها، مع الوقت، قناعة أو مسلمة، يؤمن بها كيري "حتى تستمر الولايات المتحدة في الاحتفاظ بموقف سلبي، في مواجهة المجازر"؛ التي ارتكبوها، ويرتكبونها حتى الآن مع عميلهم الأسد، على الأراضي السورية!

هذا ليس ذكاءً روسياً مقابل الغباء الأمريكي، بل سذاجة مؤيدي كيري في البيت الأبيض، الذين دعموا بحماس غير مقيد صيغة المصالح الأمريكية الروسية المشتركة، محاولين إقناع الجميع بأن موسكو ستفعل كل ما بوسعها للتعاون مع واشنطن على المستوى الدبلوماسي، بهدف إطلاق عمليات عسكرية مشتركة.. هذا الاعتقاد الخاطئ بالمصالح المشتركة لواشنطن وموسكو، كان مدفوعاً بحقيقة واحدة "عرفها كيري ومسؤولو البيت الأبيض فقط، وهي: أن الرئيس باراك أوباما لن يتخذ أي خطوات عملية لحماية المواطنين السوريين من الإبادة الجماعية من قبل نظام الأسد. لذلك، يجب أن يحميهم فلاديمير بوتين!". لكن الرئيس الروسي يضع مصالحه السياسية الشخصية قبل مصالح بلاده، رغم تغليفه هذا الهراء بأيديولوجية قومية شوفينية براقة خادعة للرأي العام؛ ولا يهتم بالمستقبل البعيد، بل يركز كل جهده من أجل الحفاظ على قوته السلطوية بأي ثمن.. لقد ارتكب كيري "خطأ فادحاً عندما لم يتمكن من رسم خط بين المصالح الموضوعية للاتحاد الروسي، والتطلعات الشخصية لزعيمه الحالي فلاديمير بوتين".

لقد اعتقد أولئك الذين اتبعوا سراب المصالح المشتركة في الإدارة الأمريكية "أن الهدف المعلن للتدخل العسكري الروسي هو محاربة داعش؛ لكن في الواقع، اتضح أن كل شيء كان مختلفاً تماماً عما تم طرحه؛ فقد تدخلت روسيا لحماية الأسد"، ومع ذلك، استمروا في الإصرار على سَفْسَطة مكيافيلية تقر بأن "داعش" هي عدو مشترك، وأن الأسد صديق الحلفاء الروس؛ وأن العملية العسكرية الروسية "ستعلق في المستنقع ولن تعطي نتيجة" ؛ كما قال باراك أوباما!

لم نر في عهد كيري سوى التعنت الروسي الوقح مقابل كل طرح أمريكي، لذلك تحولت سياسة الولايات المتحدة الخارجية إلى سياسة هزيلة تجرها عربة ملحقة بقطار دبلوماسية الدببة الروس!  

الخطر الأكبر هو أن القادة الأمريكيين لا زالوا ـ حتى الآن ـ يبررون عدم قدرتهم الرد على ما يجري في سورية، واستمرارهم في الرجوع إلى المصالح المشتركة غير الموجودة أصلاً في سوريا مع وجود بوتين.   

ومهما كانت الأعذار التي يمكن للإدارة الأمريكية أن تعطيها لإحجامها عن حماية السوريين من المجازر، يجب عدم البحث المستمر عن نقاط اتصال مع فلاديمير بوتين، والتخلي عن هذا الوهم إلى الأبد الذي جاءت به إدارة أوباما الكسيحة. 

قاد ترامب أيضاً الولايات المتحدة إلى حقيقة أن سورية أصبحت "غير ذات صلة" بالبيت الأبيض؛ على الرغم من حقيقة أنه ليس هو المسؤول الوحيد عن الوضع، إلا أنه "أضعف الموقف الأمريكي بشكل كبير؛ لتستفرد روسيا بالملف السوري كاملاً، ويحدث كل شيء هناك من دون أي تدخل أمريكي تقريباً، بعدما ضمنت حصتها، بالتعاون مع الأكراد، في شمال شرق البلاد؛ ولم يعد يهمها شيئاً. 

لكن لماذا يتصرف الأمريكيون بهذه الطريقة؟

ربما أرادوا التخلص تدريجياً من هذا الصراع، لأن الوضع لم يكن مناسباً ومربحاً لهم؛ وترك المسؤولية تقع على عاتق روسيا، وبهذا سيكون عليها دفع الثمن سياسياً ومالياً؟!

حتى الآن لا نعرف ما يدور في ذهن الساكن الجديد للبيت الأبيض حول الملف السوري، رغم مرور أكثر من مئة يوم على إفراغه بالقوة تقريباً من ساكنه السابق ترامب، وتوتر الوضع بينه وبين بوتين بعد وصفه بـ "القاتل".. الأمور لا زالت في بدايتها بالنسبة لبايدن؛ ونحن ما زلنا في انتظار غودو أمريكي جديد، يحاول أن يلجم بشكل حقيقي القاتلين: أسد دمشق وبوتين موسكو!! 

* أغلب الأقوال اللاحقة بين الأقواس مأخوذة من مقال فريدريك هوف: 

Frederic C. Hof. Putin V. Russia in Syria. 10/03/2016: https://www.huffingtonpost.com/ambassador-frederic-c-hof/putin-v-russia-in-syria_b_12299574.html?guccounter=1

التعليقات (1)

    Nabil

    ·منذ سنتين 11 شهر
    شكرا دكتور علي على هذا المقال الغني????
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات