كيف تجمّع كل هذا الشر في شيكاغو- السويداء؟!

كيف تجمّع كل هذا الشر في شيكاغو- السويداء؟!
كنت في طريقي إلى مؤسسة المحروقات، يملؤني شعور مسبق بالضيق والحنق، رغم أني أسعى للحصول على بطاقة ذكية يفتخر غيرنا بأنهم بنظمون علاقة المواطن بـ "دولته" من خلالها، كاستثمار منظم للحضارة، لكن هذه البطاقة هنا ستلحقني بطوابير الانتظار اليائسة التي تحول إليها شعبي بأكمله في معركة الحفاظ على الرمق الأخير. تأخرت في الحصول على سيارة أجرة توصلني في زمن صار البنزين يتمتع بسعر صرف يوازي الدولار بينما تباع المخصصات، أكثرها، لأكشاك البيع الحر، حيث يعلق الزعران على خيالهم حلم الثراء السريع يتغذى على قوت شعب منكوب.. أجنحة سريعة الوصول.

أخيرا توقفت سيارة أجرة، لكن حاجزا طيارا منعها من الوصول. في شيكاغو السويداء، تلقى بضعة أحجار على الطريق، تحجز السيارات ليتجمع جمهور من رجال مكبلين باليأس أمام أسلحة عمياء بلا خطة توجهها.. وزعران عيونهم حمر من جهل وحشيش.. تميزهم لحية ممشطة بعناية مستفزة تشي بآثار داعشية.. بينما استبدلوا غطاء الرأس الأبيض الشريف بعمامة سوداء مقيتة تكشف روحا سوداء حائرة تحيِّر مَن يحملها ومن يواجهه.

كيف تجمّع كل هذا الشر في السويداء بين ليلة وضحاها؟

اكتمل المشهد مع صوت إنذار مقيت زاعق ورتل طويل من سيارات ضخمة مُفَيّمة تسبقه وتلحق به، سيارات مطعمة ب دوشكا وكثير من عمامات سود بغيضة.. موكب شهيد؟؟ الشهيد لا يحظى بتلك الحفاوة لأن فقره لا يتيح تلك السيارات وتلك الجيوب المشحونة بما غلا من عملات متنوعة.

إذا.. مشروع غزو لا يعلم إلا الله ما خفي من أسراره

انقضَّ الحشد المسلح الذي ترجل من السيارات على مؤسسة المحروقات، امتلأت الطوابير الكثيرة بالفوضى، لا يحصل أي كان على جواب. ماذا؟ لماذا؟ نبقى؟ نغادر؟ خطر بقاؤنا هنا؟ الوقت الذي ضيعناه منذ فجر الانتظار الرمادي؟ يا موظف! يا رجل الفصائل المسلحة!!! ؟؟

يا الله... وحدك من تعلم. حسبي الله ونعم الوكيل.

غمر المكان مشهد قدم جوابا صارخا يحكي عن نفسه بلا مقدمات،  أخرجت الصبايا الموظفات في رتل يلفه صمت يشي بالمعاني المعقدة.. رؤوسهن مطأطئة والدمع يفضح خفايا روح معذبة.. أولئك الجميلات المخلصات، اللواتي ثابرن على عمل صعب في ظروف حالكة وكٌن مثالا في الدقة والمتابعة كما شهدت بنفسي من قبل.. تقلب لحظة رعناء واقعهن ورؤيتهن لوطن تخدمه بعينيك وروحك لتكتشف في لحظة أنك أمام الهباء المنثور... مع اختلاف الوضع لم أر إلا صبايا سنجار الإيزيديات.. مشهد.

السويداء في غنى عنه.. السويداء أكبر منه

مباشرة، تحول مركز المشهد إلى فحل من أزلام الموقف.. تصدر المكان بكتلة شعر مربوط فوق رأس نصف حليق، ولحية مَهّدَ السيشوار عنادها، ويدان شديدتان تشيلان روسية غير موجهة. لكن عينيه الخضراوين المليئتين بطيبة السويداء كانتا تشيان بأنه لم يٌزج بأتون الارتزاق منذ عهد بعيد. 

تكررت أسئلة الواقفين وتكرر جوابه:

_لا أعرف .

كنت وسط حلقة المنتظرين في مواجهته مباشرة، سألته:

- لماذا لا تجيب؟

_ لا أعرف.

_تحسب نفسك قائدا في هذا الجمع ولا تعرف بما تجيب؟؟ تحمل بندقية أمامنا وكأنك ترى مواطِنك عدوا.. ولا تعرف لماذا. لا تعرف شيئا سوى تمشيط شعرك، أنا متعلمة ولا أقبل أن يقف شخص مثلك أمامي ليوجهني.. قل لمن أرسلك إنكم أضعتم يوم عمل لنا. هل تعرف لماذا؟؟؟

إن كنتم تريدون فعل أي شيء لا تفسدوا مقابله حياتنا بلا خطة واضحة، بلا قطع طريق ولا حمل سلاح..

استدرت وغادرت. سمعت صوته يعلو لأول مرة:

_ إجري فيكي وبعلمك.

عدت فنظرت إلى الحشد الذي لم يتدخل بكلمة واحدة حتى تلك اللحظة. رشقتهم بكلمتي:

_ خلّي شي زلمة يرد عليك.

اقترب مني رجلان ليطلبا مني المغادرة، أحدهما قال:

_ هو لن يسمعك، وإن سمع لن يفهم ما تقولين.

_بل يسمع ويفهم. يجب أن يعرف أنه غبي ومرفوض، وغير مسموح له أن يقف بسلاحه أمامنا.....

_لم يوصلنا إلى هذه الحال إلا سكوتكم.

انتشرت في المكان معلومات أنه قد تمت مصادرة أجهزة الحواسيب التي تضبط العمل وإعادة البطاقات التي كان الموظفون يعملون عليها.

تابعت طريقي إلى باب الخروج. شاهدت الواقفين ثابتين في انتظارهم غير فاهمين أن السلاح أغلق العمل، على الأقل لهذا اليوم.

***

رغم خفقات قلبي المتراكضة، رغم النار التي تلهب وجهي، كنت سعيدة أني بصقت في وجه هؤلاء الخونة لأهلهم ونقلت ولو كلمة واحدة مما قد تقوله هذه السويداء الجريحة. أني أذكرهم  بأن هذه الأرض لا تحتملهم. هذه  الأرض التي كانت تجير الأبطال بينما الآن تهان أمامهم إحدى لبواتهم بمنديلها الأبيض وقلبها المكلوم فلا يتحرك في شرايينهم إلا ماء الذل ولون الانقسام.

كنت سعيدة جدا بخروجي من بينهم، لكن روحي حلّقت فرحا وانتصارا حينما رأيت ذاك الجبان خلف شبيه له على دراجة نارية يلوذان هربا وخزيا.. رغم أنه رمى آخر نفثة من حقد وغباء حينما مر أمامي.

_تفي عليكي يا واطية..

ابتسمت لأنها *ضربة  المقفي* التي يحكون عنها في السويداء. صنيع من لا يمكنه المواجهة.. لكني أنا المرأة غير المسلحة إلا بالإيمان وبالكرامة أخرجته مع سلاحه من ساحة أرادها له وأفشلته كلماتي.

***

قرأت خبرا عابرا على الفيسبوك أن أحد الفصائل المسلحة لم تحدد هويتها بعد، داهمت شركة التكامل في مقر مؤسسة المحروقات بهدف إيقاف العمل بالبطاقة الذكية في توزيع البنزين.

عرفت مما تناقلته العامة أن أولئك الأوغاد يمثلون حرامية البنزين الذين ينهبون مخصصات السويداء ويبيعونها في أكشاك التهريب التي تتكاثر في واجهة شوارع البلد وتفرض أسعارا خلبية.

ذلك يعني أن ما حصل لا يمت إلى فصيل رجال الكرامة وأني لم أوجه إهانة إلى أحدهم.

عدت إلى مقارعة العمل في ساحة السويداء المثقلة بمظاهر هجينة، إلى الاستعانة بالصبر والصبر والصبر والصبر.. بالرجاء إلى رب العباد أن يقينا مزيدا من المواجهة مع  من سحبت جيناتهم واستبدلت قطرات دمهم، تغيَّبَ انتماؤهم فصاروا يرهبون.. علينا الخوف ممن لا يخاف الله.

لكن الله عليهم لقدير.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات