السياسة الخارجية التركية: عقد من المكاسب الاستراتيجية ومحظورات الـ "صفر مشاكل"!

السياسة الخارجية التركية: عقد من المكاسب الاستراتيجية ومحظورات الـ "صفر مشاكل"!
تعتبر تجرية حزب العدالة والتنمية في تركيا، تجربة فريدة من نوعها في نظر أعدائها قبل أصدقائها.. ذلك أن هذا الحزب الذي تأسس في صيف عام 2001 وتعرض لعقوبات كثيرة كان من الممكن أن تحول دون صعوده، سرعان ما استطاع أن يشق طريقا صعبا في الانتخابات التشريعية والبلدية والرئاسية، وأن ينتصر على منافسيه الأقوياء داخليا.. وفي معركة بالغة الشراسة تجاه هويته الإسلامية الطابع خارجيا. 

ويعتبر داوود أوغلو أحد أكبر منظري السياسات التركية داخل حزب العدالة والتنمية داخليا وخارجيا، ولعل أهمية تنظيراته الاستراتيجية أنه أعقبها تطبيق شبه كامل لهذه الأفكار القوية التي يستند إليها حزب العدالة والتنمية، بعد وصوله إلى سدة الحكم في تركيا منذ عام 2007، حيث يرى أوغلو أن عوامل عودة الدولة التركية إلى ساحات التأثير والمركز العالمي تتمحور حول نظريته التي سماها العمق الاستراتيجي وتتمحور حول:                                           

1-  الرؤية: وهي الاعتقاد الفكري التام والأسس النظرية فيما يتعلق بأن تركيا دولة مركزية لا دولة هامشية أو ثانوية، وتمتلك من المقومات المختلفة، ما يكفي لتحقيق رؤيتها الشاملة واقعا وحقيقة سواء في الداخل التركي على صعيد الجمهور التركي المتعطش للقوة، أو في المحيط الآسيوي الأوروبي أو دول البلقان والقوقاز على الصعيد الخارجي، فحيث تتجه السياسات التركية خارجيا تجد لها حاضنة دينية أو ثقافية أو جغرافية وخاصة في الشرق الإسلامي، وهذه الرؤية هي الأسس والركائز النفسية التي تنظر لتركيا المركز صاحبة التأثير والتأثر من منطلق القوة.

تنطلق رؤية أوغلو من أن تركيا دولة مركزية لا دولة هامشية أو ثانوية، وتمتلك من المقومات ما يكفي لتحقيق رؤيتها الشاملة، سواء في الداخل على صعيد الجمهور التركي المتعطش للقوة، أو في المحيط الآسيوي الأوروبي أو دول البلقان والقوقاز

2-  الكيفية: وهي كما يراها أوغلو.. إعادة تموضع على الصعيد السياسي الخارجي، يستند إلى الاتجاهات السياسية (الرؤية)، فلا تركيا تتخلى عن بعدها الأوروبي الأمريكي، ولا هي تحجم عن التدخل وصناعة القرار والتأثير في محيطها غير الأوروبي والأمريكي وخاصة منه العالم الإسلامي، وهذا واضح جلي في السياسات التركية منذ عشرين سنة داخل القوقاز ووسط آسيا وشرق المتوسط وشمال أفريقيا... فلا حدود تمنع الأتراك من تصدير رؤيتهم السياسية، ولا عقبات تخلق للأتراك حالة اختيار بين الشرق والغرب.

3-  المدى الجغرافي: نظرية الدولة المركز تحيلنا إلى رؤية شاملة غير محدودة بكيفيتها، وهذا يعني أن المدى الجغرافي لهذا المشروع غير محدد شرقا وغربا، ما يبشر بعلاقات عالمية واسعة تدخل إلى كل مناطق العالم، وفي الواقع لا توجد منطقة في هذا العالم لا تشترك مع الأتراك في الدين أو العرق أو اللغة أو الجغرافيا أو المصالح، إلخ.. وهذه هي سمات المركزية التي نظر لها داود أوغلو.

ولعل التوافقات الموضوعية في الداخل التركي مع نظرية أوغلو في الأوساط الشعبوية، ساهمت بتحول التنظير إلى واقع ملموس وخاصة مع تولي حزبه الحكم في البلاد، وكذلك مع العالم الخارجي أدت إلى تصدير المشروع بسبب الفوضى العارمة وتقاطع وتضارب المصالح التركية مع الشرق والغرب والقواسم المشتركة مع الآخرين وحاجة العالم إلى مركز ثقل يتوسط الشرق والغرب لتخفيف حدة النزاعات والانقسامات والدفع بعجلة الاستقرار النسبي في المنطقة، وذلك بعد إخفاق النظرية الأتاتوركية المنغلقة على نفسها، في تلبية طموح الداخل التركي والمشاركة الفاعلة في تأمين التوجهات الإقليمية.

أخفقت النظرية الأتاتوركية المنغلقة على نفسها، في تلبية طموح الداخل التركي والمشاركة الفاعلة في تأمين التوجهات الإقليمية.

إن نظرية العمق الاستراتيجي في محيط تركيا الملتهب.. ولدت مشكلات استراتيجية قد تودي بالدولة التركية إلى الانهيار، وهذا ما جعل فيلسوف النهضة التركية وربان خارجيتها أحمد داود أوغلو، ينحو منحى آخر في معالجة ذلك، عن طريق نظرية أو رؤية "الصفر مشاكل" إذا اعتبر أن استمرارية التقدم التركي في المنطقة يحتاج إلى علاقات جيدة خالية من الحساسيات مع جميع دول الإقليم، وبخاصة حول التاريخ العثماني السياسي الطويل الذي حكم المنطقة. 

 بعد 2010 بدأ التدخل التركي في معظم دول المنطقة لصالح توجهات معينة كالربيع العربي والحركات الإسلامية وغيرها، وهذا ما لم تستطع تركيا الاستمرار فيه على المدى الطويل، بالرغم من مكاسبها الكبيرة في العراق وسوريا وليبيا وأذربيجان، إذ يمكن لنا أن نلاحظ بسهولة حجم الضغوط السياسية والاقتصادية الهائلة على تركيا بفعل محاولتها التغيير أو الدفع به في المنطقة، ما جعل الأتراك يغذون الخطى نحو العودة بالسياسة التركية إلى مضمار رؤية "الصفر مشاكل" وهذا جلي في السنة الأخيرة من عقدنا والتي تجلت في محاولات تحسين العلاقات التركية مع مصر وروسيا واليونان وقبل ذلك مع السعودية التي لا يفتأ إعلامها الذي تسيطر عليه الأقليات يكيد لتركيا في كل خبر صغير أو كبير، وبمناسبة وبلا مناسبة.. تلبية لدوافع ذاتية، يظن الأقلياتون أنها ستتقاطع للأبد مع السياسة السعودية، التي لا يمكن أن ننكر براغميتها بطبيعة الحال، وإن تأثرت في السنوات الأخيرة إلى حد ما، بغياب عميد الديبلوماسية المخضرم والمتمرس الأمير سعود الفيصل. 

تسيطر  الأقليات على الإعلام السعودي الذي يكيد لتركيا في كل خبر صغير أو كبير، وبمناسبة وبلا مناسبة.. تلبية لدوافع ذاتية، يظن الأقلياتون أنها ستتقاطع للأبد مع السياسة السعودية، التي لا يمكن أن ننكر براغميتها بطبيعة الحال

إن سقف التوقعات المأمولة من تركيا، سيخفض جدا في السنوات القادمة لدواعي استراتيجية، وهذا لا يعني بالضرورة تخلي تركيا عن مكاسبها المختلفة التي حصلتها في العقد الثاني من الألفية الثالثة! ولكن بصورة أكثر تناغما وأقل حدة وأثبت رؤية، أي بمعنى آخر: الجمع بين نظرية العمق الاستراتيجي ومكاسبها وبين ضرورات الصفر مشاكل.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات