الوجه المظلم لكرة القدم الأوروبية

الوجه المظلم لكرة القدم الأوروبية
أسدل الستار عن مبارايات بطولة أوروبا لكرة القدم؛ ورغم كل ما أعطته هذه البطولة من متعة وإثارة وشغف وحماس وأضواء ودفء بعد شهور صعبة من تداعيات كوفيد - 19، كانت هناك أسباب عديدة لاعتبارها بطولة فاشلة تنظيمياً وأخلاقياً. 

خاضت المنتخبات 51 مباراة في 11 دولة، ما أدى إلى تنقل اللاعبين وآلاف المشجعين عبر جميع أنحاء أوروبا وحتى خارجها (مثل باكو عاصمة أذربيجان التي تقع في الشرق) أثناء الانتشار السريع لـ "المتحور دلتا". فضائح جديدة تمثلت في: زجاجات البيرة الطائرة، العراة السكارى، العراك بالأيدي، المعارك التي خلفت جرحى ومصابين، الإهانات العنصرية، صيحات استهجان، الخلاف حول الركوع والتضامن مع حركة "حياة السود مهمة"، إشكالية قوس قزح والموقف من المثليين، مصير الدنماركي كريستيان إريكسن، كولا كريستيانو رونالدو... أما في إنكلترا، فقد اجتاح مئات المشجعين استاد ويمبلي بسبب عدم توافر التذاكر لديهم، ما دفع المتفرجين إلى الوقوف في الممرات أو الجلوس معاً في المقاعد. لم يتمكن الآخرون من مغادرة المبنى أو دخوله لأنه كان ممتلئاً للغاية. كذلك رابط العديد من الزعران الإنكليز خارج الأبواب من أجل الاعتداء على المشجعين الإيطاليين الذين يغادرون الملعب... هذا كله لم يحدث في بلد متخلف من العالم الثالث؛ بل في إنكلترا: مهد كرة القدم والثورة الصناعية والاستعمار الحديث...!

جمهور الوباء العنصري 

بعد أن قدم منتخب إنكلترا الشاب والواعد أفضل ما لديه، ووصل إلى المباراة النهائية أمام إيطاليا، ومن ثم خسر في ركلات الترجيح، لم تهيمن صور الفرح ومشاعر السعادة والامتنان على مشجعيه، بل انهالوا بعاصفة من الغضب والحنق والشتائم على ثلاثة لاعبين من أصول إفريقية مهاجرة - ماركوس راشفورد وجايدون سانشو وبوكايا ساكا-  لأنهم أضاعوا ركلاتهم الترجيحية.

فبدلاً من تكريم اللاعبين الذين وصلوا إلى النهائي؛ وهذا ليس بقليل في بلد لا يوجد بخزانته سوى كأس قديم صدئ منذ عام 1966، نشروا إيموجيات (رموز تعبيرية) للقرود، وأساؤوا لهم ولعائلاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي. كذلك عمدت بعض الجماهير الإنكليزية إلى تغطية لوحة جدارية لراشفورد، في مسقط رأسه مدينة ويثينغتون، بكتابات عنصرية مشينة. لكن تم إخفاء هذه الكتابات لاحقاً بأعلام إنكليزية وقلوب ورسائل دعم متعددة الألوان. بينما أرسل طفل إنكليزي يدعى ديكستر، عمره 9 سنوات فقط، رسالة دعم إليه بعد ركلة الجزاء الضائعة في نهائي اليورو ضد إيطاليا جاء فيها: "أتمنى ألّا تبقى حزيناً لفترة طويلة لأنك شخص صالح جداً... لقد ألهمتني كثيراً السنة الماضية بسبب أعمالك الخيرية الكبيرة من أجل مساعدة الأطفال الصغار المحتاجين؛ واليوم في المباراة النهائية ألهمتني بأن أكون شجاعاً. على كل حال أنا فخور بك جداً وستبقى دائماً بطلي!".

رد راشفورد على الهجوم العنصري الذي تعرض له عبر حسابه في "الإنستغرام" قائلاً: "لقد كبرت في الرياضة، وأنا أتوقع أن أقرأ أموراً كُتبت عني، من لون بشرتي إلى المكان الذي نشأت فيه، ومؤخراً حول المكان الذي أقضي فيه وقتي خارج الملعب، بإمكاني تقبل النقد حول أدائي طيلة اليوم، وأن ركلة الجزاء التي نفذتها لم تكن جيدة، وأنها كان يجب أن تدخل، لكنني لن أعتذر يوماً عمن أنا أو عن المكان الذي تربيت به". في حين وجه بوكايا ساكا رسالة إلى القائمين على منصات التواصل الاجتماعي: "لا أريد أن يتلقى أي طفل أو بالغ رسائل كراهية وإيذاء مثل التي تلقيتها أنا وراشفورد وسانشو هذا الأسبوع. لقد عرفت على الفور أنني على وشك تلقي هذه الكراهية، وهذه حقيقة محزنة أن منصاتكم القوية لا تفعل ما يكفي لوقف هذه الرسائل". وأضاف: "لا مكان للعنصرية أو الكراهية في كرة القدم أو مجالات المجتمع، يجب على الأفراد تحديد هوية الأشخاص الذين يبعثون هذه الرسائل، من خلال اتخاذ الإجراءات وإبلاغ الشرطة بهذه التعليقات، مما يقودنا لطرد الكراهية والتعامل بلطف مع بعضنا البعض.. الحب دائماً يفوز". كذلك غرد سانشو في حسابه الشخصي على تويتر "كمجتمع، يجب أن نكون قادرين على القيام بما هو أفضل من ذلك وضمان محاسبة الجناة... الكراهية لن تنتصر أبداً؛ بالنسبة للشباب الذين تعرضوا لهجمات مماثلة، ارفعوا رؤوسكم عالياً وواصلوا مطاردة أحلامكم".

فتحت شرطة العاصمة تحقيقاً في تلك المنشورات المسيئة والعنصرية؛ وأصدر الاتحاد الإنكليزي لكرة القدم بياناً أدان بشدة جميع أشكال التمييز والعنصرية على الإنترنت. لكن،  هل هذا يكفي؟

بالطبع لا! 

قد تكون أقلية هي التي فعلت ذلك، ولكن حتى الأقلية هي أكثر من اللازم؛ خاصة عندما يكون صوتها مرتفعاً وحاداً. لقد قدم المشجعون الإنكليز، الذين غالباً ما يعرفون بثقافتهم الكروية الواسعة، أسوأ صورة لهذه البطولة الأوروبية؛ وأظهروا أن شوفينيتهم الإنكليزية أصبحت أكثر وضوحاً من بلدهم المتحضر نفسه. 

مشاهد عنصرية قبيحة في المجر

نشر الاتحاد الأوروبي لكرة القدم قواعد سلوك كورونا لجميع المشجعين الذين يشاهدون المبارايات في الملعب. وطالبهم بالحفاظ على مسافة لا تقل عن متر ونصف بينهم، وارتداء الكمامات، وعدم احتضان بعضهم بعضاً. ولكن، عندما عرضت الكاميرات تلك الجماهير اللامبالية، لم يكن هناك أي قناع، ولا حد أدنى للتباعد. كذلك انتهك عدد كبير من المشجعين المجريين أيضاً القواعد التي تطبق ليس فقط في الملعب، وليس فقط أثناء الوباء، بل دائماً: لقد أساؤوا عنصرياً للاعبين الفرنسيين؛ فقد سمعت أصوات قرود مراراً وتكراراً من المدرجات عندما حاول اللاعبون من ذوي البشرة السوداء، مثل كانتي وبوغبا ومبابي، لمس الكرة. حتى كريم بنزيما، ذي الأصول الجزائرية المهاجرة، لم ينجُ من مضايقاتهم بين الحين والآخر!

في مباراة الدور التمهيدي لبطولة أوروبا بين فرنسا والمجر، التي انتهت بالتعادل 1-1، تجمع مئات المشجعين المجريين خلف المرمى مرتدين الألوان السوداء. كان التجمع عبارة عن أعضاء في "لواء الكاربات" النازي الجديد الذي يتبع "مؤسسة القيم الذاتية" البودابستية. لقد أدى العديد منهم تحية هتلر في مباراة المجموعة الأولى للمجر ضد البرتغال، ووجهوا عبارات معادية للمثليين إلى النجم كريستيانو رونالدو. كذلك أهانوا حارس مرمى منتخب ألمانيا مانويل نوير لأنه وضع إشارة كابتن على شكل علم قوس قزح؛ وصرخوا بين الحين والحين: "الألمان مثليين"!  

لم تكن هذه الحوادث العنصرية هي الأولى التي يقوم بها المشجعون المجريون، فقد أطلقوا صيحات الاستهجان على اللاعبين الأيرلنديين خلال مباراة تحضيرية للبطولة الأوروبية، لأنهم جثوا على ركبهم قبل المباراة. لم ينتقد رئيس المجر فيكتور أوربان سلوك مواطنيه، بل وبخ الإيرلنديين على "الاستفزاز غير المهذب" قائلاً: "إذا كنت ضيفاً في بلد ما، فلا تستفز السكان المحليين!".

مرتزقة سويسرا من البلقان

اتهمت الصحافة السويسرية فريق بلادها لكرة القدم، الذي أقصى الفريق الفرنسي بطل العالم المدجج بكل أنواع النجوم، ووصفت لاعبيه بـ "قوات مرتزقة من البلقان" لكثرة الموجودين في صفوفه من أصول بلقانية؛ رغم أنهم كانوا أبطالاً وحققوا المستحيل لبلادهم.

قامت هذه الصحافة بانتقادهم، لأنهم لا يعرفون النشيد الوطني، أو أنهم لا يغنونه بالشكل المطلوب.. وهل هذا مقياس للوطنية؟ 

كذلك ذكرت بما قام به اللاعبان شيردان شاكيري وغرانيت شاكا عندما أشارا بأيديهم للنسر ذي الرأسين بمناسبة الانتصار على صربيا في كأس العالم السابقة بروسيا. أو بتجول بريل إمبولو فوق الأسطح بعد حفلة ممنوعة، أو بسيارة فيراري التي يمتلكه سوبير، وسيارة لامبورغيني لشاكيري، وبورش لشاكا؛ رغم أنهم محترفون ويلعبون في أندية عريقة خارج سويسرا مثل ليفربول وأرسنال؛ ويقبضون رواتبهم بكدهم وتعبهم خارج البلاد! 

لقد شعر هؤلاء اللاعبون الذين بذلوا كل جهدهم كي يمثلوا بلدهم خير تمثيل ويصنعوا التاريخ، بأنهم غير محبوبين رغم كل ما قدموه. قال كابتن المنتخب شاكا "إنهم يريدون تدمير الفريق"؛ لتضيع صرخة المشجع السويسري لوكا لوتينباخ الأسطورية وهو يمزق قميصه الأسطوري في الدقيقة 90 من المباراة بعد تسجيل فريقه هدف التعادل ضد فرنسا! 

الجدير بالذكر أن هذا الجيل نفسه من اللاعبين، الذي لن يتكرر في وقت قريب، هو الذي توج ببطولة العالم لكرة القدم تحت 17 سنة قبل عقد من الزمن! 

كرة القدم كمنتج إبداعي

رغم أن كرة القدم، كمنتج إبداعي، لديها الكثير من الأشياء الإيجابية لتقدمها حسب مبدأ "لكل شخص مكانه في الملعب، بغض النظر عن هويته، ومن أين أتى وكيف يلعب"؛ إلا أنها ما تزال تعاني من الأمراض العرقية والعنصرية. لقد كشفت البطولة الأخيرة عن الوجه المظلم لكرة القدم الأوروبية، وعن ظروف الاندماج المعقد للاعبين من أصول مهاجرة.. إن شعور هؤلاء يتقاسمه الكثير من الناس في تلك البلدان؛ ولاعبو كرة القدم ليسوا مجرد لاعبين فحسب، بل هم أيضاً رموز. يمكنهم التأثير وتحريك الأمور؛ فكلما كبر الملعب، ارتفع صوت الرسالة. وكلما زاد عدد المعارضين للعنصرية، زادت أهمية الرسالة. ولا يتبقى على الاتحاد الأوروبي لكرة القدم سوى فحص هياكله عن كثب بحثاً عن الآفات المدمرة، والعمل من أجل تحويل لوائحه التأديبية التي تحظر "استخدام الإيماءات أو الكلمات أو الأشياء أو غيرها من الوسائل لنقل رسائل استفزازية لا تتناسب مع حدث رياضي، ولا سيما الرسائل الاستفزازية السياسية أو الأيديولوجية أو الدينية" إلى حقيقة وواقع. وإذا لم يفعل، فستكون هناك ردود أفعال جماعية من قبل أولئك اللاعبين المستهدفين، مثلما فعل هودسون أودوي الذي قرّر التخلي عن جنسيته الرياضية من الإنكليزية إلى الغانية!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات