في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين ظهرت أغرب ظاهرة استعمارية، ألا وهي استعمار سوريا.
فلأول مرة في تاريخ الاستعمار تستدعي سلطة حاكمة دولتين لاستعمارها: دولة في بداية تحولها الرأسمالي ،ومحتفظة بإرثها الشمولي الستاليني في الحكم وهي روسيا،ودولة تنتمي إلى وعي العصور الوسطى تخضع لمبدأ حق الملوك الإلهي في الحكم.
فضلاً عن أن هناك دولتين: أمريكا التي ترسم حدودها الاستعمارية في سوريا ببعض الجنود، وتعتمد على حركة مسلحة لأقلية قومية، وحلفائها من الأكثرية القومية، وتركيا التي فرضت نفسها دولة مستعمرة بفضل قوى إسلامية حليفة لها.
وهكذا حصلنا على استعمار سوريا من قبل أربع دول روسيا إيران تركيا أمريكا.ومن حيث التجربة الاستعمارية،لا يمكن لمستعمر أن ينجح في استعمار بلد منهار اقتصادياً وتقنياً واجتماعياً وغير مستقر، بل لكي ينجح مستَعمِر لا بد أن يُحدث تقدماً ما في البلد المُستَعمَر،فكثير من تحديث البنى التحتية في جميع البلدان المستعمَرة سابقاً تعود إلى حاجة المستعمِر لكي يسهل استعماره .
والدول الأربعة المستَعمِرة ليست في وارد ذلك، وبعضها لا يستطيع اقتصاده أن يتحمل تكاليف تقدم مهما كان بسيطاً. كالاقتصاد الروسي والاقتصاد الإيراني. ولهذا فكل الأموال التي تُصرَف من قبل إيران وروسيا إنما تُصرف على الأسلحة وحاجات الحرب فقط.
إن المأزق التاريخي المتولد من الحقيقتين السالفتين، إذا ما استمر ،يعني ثورات مناطقية وتمردات أهلية وصراعات محلية من شأنها أن تقضي على العصبية الوطنية لقاء عصبيات ما قبل وطنية.
إن أية معارضة وطنية لا تفكر بهذه الحقائق وتعمل على تجاوز أخطارها، ليس باستطاعتها إنجاز أي تحول إيجابي على الأرض.
يجب ألّا يخرج التفكير بمستقبل سوريا عن نموذج النظام السياسي المطلوب. وعندي أنه لا يصلح لها إلا النظام العلماني الديمقراطي. الدين الشعبي السوري دين لا علاقة له بالسلطة الدينية، السلطة الدينية لا دخل لها بحياته وعلاقاته وتجارته وعاداته وأفراحه وأزيائه وحبه للحياة. الدين الشعبي السوري دين حب الله وليس الموت من أجله.
سوريا مدن كبيرة ومدن حرفة وصناعة وتجارة، وقرى زراعية منتجة،سوريا وطن متعدد الأديان والطوائف والإثنيات، سوريا بلد الفئات الوسطى الواسعة، سوريا بلد ثقافة الإبداع الأدبي والفكري والموسيقى. سوريا قامت بثورة من أجل حريتها وليس من أجل دينها. بعد تجربة الاستبداد الطويلة لا يمكنها أبداً أن تتحمل استبداداً من نوع آخر . الجماعة الحاكمة لم تكن علمانية ونظامها لم يكن علمانياً و ممارستها المستبدة قروسطية ،وحسها الوطني معدوم، لا مواطنة دون علمانية ديمقراطية. العلمانية المستبدة على شاكلة علمانية الدولة الشمولية الشيوعية والنازية والفاشية هذه ليست علمانية لأنها حولت الأيديولوجيا العلمانية إلى دين الدولة المستبدة.
فلا الدكتاتورية العسكرية ولا الدكتاتورية الأصولية بقادرتين على إنقاذ سوريا مما هي فيه من أشكال الاستعمار القائمة، أو من المأزق التاريخي الذي هي عليه الآن.
التعليقات (3)