طالبان وأفغانستان وكرزاي والقاعدة بين الواقع والأساطير

طالبان وأفغانستان وكرزاي والقاعدة بين الواقع والأساطير
آلاف الأفغان يحاولون الوصول لمطار كابول خوفاً من طالبان بسبب عملهم مع الأمريكان وطالبان تمنعهم، ومقتل عدد من الأفغان في محاولة اقتحام المطار ..  خبران يمثلان نموذجاً يتم تكراره كثيراً في محطات إخبارية غربية (أوروبية وأمريكية) مع ببغاوية تسم بعض المحطات العربية وفق بروباغاندا سياسية تحملها .. لكن هل هذه هي الحقيقة أم نصفها أم أن النصف الآخر ينهي الحقيقة ويحولها إلى شيء مختلف كلياً؟ 

في الواقع فإن كل ما يجرى في أفغانستان اليوم يتم تداوله بهذه الطريقة، لتختلط الحقائق بالتحليل بالرأي خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تمثل مصدراً لكثيرين كما تمثل باب شهرة ومال أحياناً لآخرين وليطغى كل ما هب ودب على الحقائق.

بالعودة إلى الخبر أعلاه كمدخل ونموذج لعرض الحقائق لابد من التوضيح ووفق نفس المصادر الغربية وفي لقاءات صحفية مع أشخاص فارين حول المطار، والمتحدث باسم المكتب السياسي لطالبان ومسؤولون غربيون سنتوصل لما يلي:

• أحد الأشخاص الفارين أظهر وثائقه مؤكداً ومقسماً أنه عمل مع الأمريكان لخمس سنوات وأنه أظهر الوثائق لطالبان لكنها منعته من الوصول للمطار، مؤكداً أيضاً أن غالبية كبيرة جداً ممن يحاولون الوصول ودخول المطار لا علاقة لهم بالأمر ولا يملكون أي وثائق وكل ما يريدونه هو الحصول على فرصة سهلة وسريعة ومجانية للهجرة إلى الغرب.

• امرأة تغطي كل وجهها قائلة إنها رياضية وتخشى من أن تقتلها طالبان وآخر يقول إن طالبان جلدته على ظهره، وسمحت لهما طالبان بكرم كما يبدو بالوصول إلى المطار في مفارقة غريبة يغيب فيها المنطق لصالح البروباغاندا.

• مذيعة إخبارية في القناة الرسمية للحكومة التي هُزمت تقف أمام مدخل التلفزيون محتجة صارخة بوجه عناصر طالبان مشتكية من أن طالبان منعتها من الظهور والعمل واستبدلتها بطاقم من طالبان المنتصرة حيث إن المنطق المعكوس برأيها يتطلب استمرارها في عملها الإعلامي الحساس الذي كانت من خلاله تهاجم طالبان، وطبعاً استخدام حجة أنها مُنعت كونها امرأة أكثر جاذبية من الاستنتاج المنطقي بأنها كانت أداة بل سلاحاً حيوياً لدى الجهة المهزومة في الحرب على طالبان التي انتصرت.

• المتحدث الأمريكي يقول إن الفوضى منعت المستحقين والأمريكان من الوصول، ملمحاً لدور لطالبان في اليوم الأول ونافياً ذلك لاحقاً وماداً جسور التعاون معها في العملية.

• الناطق باسم المكتب السياسي لطالبان يلوم الأمريكان على هذه الفوضى لدعوتهم لرعاياهم والموظفين الأفغان معهم للخروج بهذا الشكل في تصريح عام دون خطة وترتيبات قائلاً "لو جرت مثل هذه الدعوة بهذا الشكل في أي بلد في العالم حتى ولو كانت مستقرة بلا حروب لرأيت مثل هذا الاندفاع لأشخاص يودون الهجرة من بلادهم للغرب" .. في الحقيقة أراهن أن كل (مشدداً على كلمة الكل) مواطني دول آسيا وأفريقيا وأمريكا الوسطى والجنوبية كانوا سيتدفقون بعشرات وربما بمئات الملايين مع أن بلادهم تعيش سلاماً ولا يوجد فيها طالبان ومثيلاتها.

• طالبان تصدر عفواً لحظة دخول كابل عن كل من قاتلها أو عمل مع الحكومة المنتهية المهزومة أو مع أمريكا وحلفائها الأوروبيين، وتعلن عدم ممانعتها بخروج من يشاء .. وبالفعل نجد أنه لم يتم المساس بأحد، كما إن طالبان تمنع أحياناً الحشود من الوصول إلى بوابات المطار حيث الفوضى العارمة التي يشتكي منها الأمريكان وحلفاؤهم، أي إن الأمر يجري لصالح الأمريكان وحلفائهم لتنظيم عملية الإجلاء. 

واضح أن الخبر كما بدا في البداية يختلف تماماً عند عرض الحقائق كاملة، لذلك جاء هذا المقال الذي هو ليس دفاعاً عن طالبان وأفكارها التي أختلف معها فيها كثيراً، بل هو لمن من يهتم بحقيقة ما يجري بعيداً عن البروباغاندا والأساطير والتفكير الرغبوي ليساريين وقوميين وإسلاميين وأقلويين طائفيين وعصابة الممانعة والمقاومة؛ مقال سأعرض فيه وباختصار الحقائق منذ ظهور طالبان مقابل ما يتم ترديده بسطحية، وسأضيف في النهاية مقارنة بسيطة وبالحقائق بين الحالتين السورية والأفغانية حتى يتوقف البعض عن جلد الذات.

• ظهرت طالبان عام 1995 من مجموعة من طلاب العلوم الشرعية الذين حملوا السلاح لوضع حد لفوضى الاقتتال على السلطة بين فصائل المجاهدين الأفغان الذين طردوا السوفييت أوائل التسعينات من أفغانستان بدعم مالي سعودي ولوجستي باكستاني وتسليح محدود أمريكي لمضادات طائرات قصيرة المدى (ستينجر)  ومضادات دروع وذخائر.

• سيطرت طالبان خلال تسعة أشهر أي عام 1996 على معظم أفغانستان باستثناء 5% في الشمال (وادي بانشير حيث الطاجيك) احتفظ بها الطاجيكي أحمد شاه مسعود الذي صمد خمس سنوات ضاماً له بقايا الفصائل الأخرى مع عدم جدية طالبان في إنهائه عسكرياً بسبب الحساسيات القومية والإقليمية وعدم تأثيره على دولتها، ليقوم عنصر من تنظيم القاعدة/بن لادن بقتله في تفجير انتحاري قبل أحداث 11 أيلول بأسابيع قليلة ومن غير الواضح دور لطالبان في ذلك.

• حركة طالبان تتبع المذهب الحنفي بشكل أساسي مع نزعة صوفية (وللاستزادة يمكن متابعة ما يكتبه الباحث محمد خير موسى)، أي إنها لا تحمل فكر القاعدة التي تحمل فكراً سلفياً خاصاً بها يختلف كثيراً عن المدارس السلفية الأخرى (بعيداً عن التبسيط السخيف والمغرض في وضع كل السلفيين في سلة واحدة)، واستضافتها لبن لادن والقاعدة كانت في إطار عرفها الإسلامي لمن قاتلوا مع الأفغان ضد الاحتلال السوفييتي.

• أقامت طالبان إمارتها/دولتها الإسلامية وفق مفهومها الشرعي الإسلامي بخصوصيته الثقافية الأفغانية (بعيداً عن التبسيط السخيف والمغرض أيضاً الذي يضع كل الحركات والمشاريع الإسلامية في سلة واحدة بغض النظر عن الثقافة والتاريخ المحلي، مفهوم شرعي إسلامي طالباني محلي أفغاني تقاطع مع تشدد تجاه المرأة والحريات السياسية وبعض الأنشطة الثقافية (كالحفاظ على التماثيل التراثية) التي تحمله بعض حركات الإسلام السياسي ومنها القاعدة.

• قبل أحداث 11 إيلول 2001 بدأت أمريكا وأوروبا بفتح قنوات اتصال مباشرة مع طالبان (دون اهتمام بمعايير حقوق الإنسان) وكان الهدف الرئيسي التعاون لوقف زراعة الحشيش والمخدرات التي اعتمد عليها كثير من الأفغان وطرد القاعدة التي نفذت بضع عمليات في اليمن وكينيا.

• بعد تبني بن لادن لأحداث 11 أيلول 2001 خير جورج بوش الابن طالبان بين غزو أفغانستان أو تسليمها المسؤولين عن العملية وطرد القاعدة بشكل نهائي (وليس جزئيا كما حصل سابقاً) من أفغانستان، فكان الموقف السياسي الساذج لطالبان برفض الأمر مما دفع الأمريكان لتنفيذ الغزو بالتعاون مع قوات أحمد شاه مسعود (الذي كان قد اغتيل) ليسقط حكم طالبان خلال أسابيع ويشكل بعض قادة الفصائل الأفغانية بالتعاون مع شخصيات مقربة من الأمريكان وعلى رأسهم حامد كرزاي حكومة تتبعها حكومات وانتخابات ودولة جمهورية جديدة تبنت علم مملكة أفغانستان قبل الانقلاب الشيوعي عام 1978، وليصل عديد جيشها إلى ما يقارب المئة ألف ينقصهم كثير من التدريب والسلاح الذي إن وجد كسلاح نوعي فبكميات محدودة مع نقص في التدريب عليه.

• بقيت طالبان موجودة في أماكن صغيرة دون تشكيل خطر على الحكومة المركزية في كابل، لتقود حرب مقاومة ميؤوس منها من جهة مقابل حكومة عاجزة وغير مهتمة بالسيطرة المحدودة لطالبان مع رفع يد أمريكا عن الأمر ما دام الأمر مستتبا بدون تنظيم القاعدة، وهنا يجدر التنويه إلى أن المجتمع الدولي وعلى رأسه الأمريكان لم يصنف طالبان يوماً كحركة إرهابية ولم يتعامل معها على أنها إرهابية كتنظيم القاعدة، ففكرها وممارساتها ليست كذلك ولم تقدم يوماً على أي فعل خارج حدود أفغانستان مع احتفاظها بحقها بمحاربة الأمريكان في أفغانستان وهو حق قلما مارسته مركزة في صراعها على منافسيها الأفغان في كابل.

• قرر الجمهوري دونالد ترامب الخروج من أفغانستان حيث لم يرَ هناك أي مصلحة أمريكية اقتصادية أو عسكرية أو في مجال محاربة الإرهاب، وتمهيداً لانسحاب منظم فرض على حكومة كابل التفاوض مع طالبان للوصول إلى تسوية، وهو ما رحبت به طالبان التي تدرك إمكانية الاستمرار لكن دون تحقيق النصر، مقابل تململ أشرف غني الذي ترأس البلاد والمستمتع بالوضع الحالي وغير الراغب بشركاء في كابل دون أن تعنيه كامل أفغانستان، وهكذا جرت جولات تفاوض برعاية أمريكية (سبقتها قبل قرار ترامب جولات فاشلة أخرى برعاية إقليمية غابت عنها جدية الأمريكان أصحاب القرار)، لتجري المفاوضات الأخيرة في قطر برعاية وضغط أمريكي حيث أبدت طالبان مرونة سياسية مع المنافس الأفغاني وتعهداً أمام الأمريكي بعدم إيواء أي قاعدي لديها وعدم التدخل وتصدير مفاهيمها لدول الجوار.

• أفضت المفاوضات لتحقيق تقدم تمثل باتفاق لإطلاق سراح الأسرى من الطرفين (المئات لدى طالبان وما يقارب تسعة آلاف لدى حكومة كابل) يليه وقف لإطلاق النار، لكن أشرف غني ووزير دفاعه نقضا الاتفاق مطلقين عدداً محدودا من معتقلي طالبان التسعة آلاف مما دعا طالبان لنقض اتفاق وقف إطلاق النار ولو بشكل محدود جداً في رسالة واضحة برغبتها بتنفيذ الاتفاق كاملاً مع أهمية موضوع أسراها المعتقلين كأولوية، ولنقارن هنا بالموقف السلبي المهمل إلى حد الجريمة في أولوية قضية المعتقلين الذي اتخذه المفاوضون بكل نسخهم منذ 2013 من متصدري مشهد تمثيل الثورة السورية.

• جاءت إدارة بايدن وقررت المضي في قرار الانسحاب الذي اتخذه ترامب لكن مع تمديد لأربعة أشهر تنتهي بحلول ذكرى أحداث 11 أيلول سبتمبر كبادرة رمزية) ولتتوقف منذ نيسان أبريل عن دفع رواتب ومخصصات الجيش الأفغاني التابع لكابل تاركة الأمر للأخيرة التي لم تقم (بأمر من الرئيس أشرف غني ووزير دفاعه) بدفع أي رواتب أو مخصصات لأربعة أشهر مضت مع ما قيل كيف أن أشرف غني يوم فراره أفرغ الخزينة الأفغانية ومنها مخصصات الجيش.

• لم يغير أي من الأحداث السابقة رأي الأمريكان (الذي اعترض عليه الأوروبيون العاجزون) في قرار أو تغيير موعد الانسحاب، الذي بدأ تنفيذه لتدخل طالبان دون قتال إلى كل منطقة انسحب منها الأمريكان وسط تفكك الجيش وعدم رغبته في القتال وانعدام موارده ورواتب منتسبيه وسأم الأفغان من الحرب، لا بسبب عشق السكان المحليين وعناصر الجيش لطالبان وفكرها ومشروع دولتها الإسلامية، ولنتذكر أن الحروب في أفغانستان لم تتوقف منذ سنة  1978 أي مدة 43 عاماً وهو أمر تدركه طالبان وتستثمره بل وترغب به على ما يبدو كما كل الأفغان.

• كان من الواضح أن طالبان قد استفادت كثيراً من عقدين خارج السلطة  لتتطور فكرياً، سياسياً وإسلامياً وتفكر بمنطق الدولة لا بمنطق الجماعة والأوهام العدمية التي تشترك فيها كل الحركات المتطرفة بكل أشكالها الدينية والعقائدية والقومية عبر العالم (وليس بعض الحركات الإسلامية فقط كما يوحي الخبثاء). 

• نتيجة لذلك توالت تصريحات طالبان المنتصرة دون قتال، توالت مطمئنةً العالم والأمريكان القلقين من الانهيار السريع جداً لحكومة كابل غير المتوقع والمحسوب، فالانسحاب الأمريكي لم يكن استلاماً وتسليماً كما رددت إحدى الأساطير التي لم يقرأ أصحابها المشهد كاملاً، ولم يكن هزيمة للأمريكان كما رددت أسطورة أخرى أكثر سذاجة، ولم يكن تعاطفاً مع طالبان وفكرها كما رددت أسطورة ثالثة خبيثة، فقد كان الانسحاب الأمريكي يعول على طرف حكومي يدرك إمكانياته ويحسن استخدامها وطرف طالباني يقدم للأمريكان والغرب ودول الجوار تعهدات موثوقة ترسخت القناعة بصدقها نتيجة المفاوضات المباشرة بين طالبان والأمريكان، تعهدات أولاً بعدم استضافة أي حركات متطرفة وتصدير أو استضافة متمردين من دول الجوار، وثانياً بالتصرف بعقلانية تجنباً لحصول موجة لاجئين التي هي هم الأمريكان وتابعهم الأوروبيون خاصة ودول الجوار عامة.

• الساذج سياسياً (وربما اللص أيضاً) هنا كان  الرئيس الأخير أشرف غني (وبعض أركان حكومته) الذين لم يدركوا كل هذه الأبعاد فكانت هذه النتيجة، نتيجةً استثمرتها طالبان لتقلب صورتها وتغير موقف العالم منها خلال أيام فقط عبر سلسلة من القرارات التي أظهرت نضجاً سياسياً فاجأ الجميع؛ فأصدرت عفوا وتعهداً بعدم ملاحقة من عملوا مع الأمريكان وقوات التحالف أو لدى حكومة كابل وعلى رأسهم جيشها وشرطتها، بل دعت الطيارين الأفغان المدربين للعودة بعد فرارهم إلى أوزبكستان المجاورة وقد كانوا يقصفون طالبان قبل أيام فقط، وأظهرت مواقف إيجابية تجاه حقوق المرأة وخصومها السابقين، وطلبت من كل مسؤولي الإدارة المدنية السابقة للعودة بلا خوف فكان قرار وزير الخارجية بالعودة، بل وطلبت من بعضهم الالتحاق بوظيفته الإدارية لتسيير أمور الولايات، وأفرجت عن كل الأسرى لديها من مقاتلي الحكومة السابقة، لتقوم بالأمس وبالاتفاق مع الأمريكان بتنظيم وتسهيل الوصول ودخول المستحقين من حاملي الوثائق المؤهلة (وفق التصنيف الأمريكي والأوروبي) لمغادرة أفغانستان بضبط الفوضى وتدقيق الوثائق وكل ذلك بتفويض أمريكي .. ولنتصور المشهد السوريالي للأفغاني الذي كان يبرز كل الوثائق المطلوبة ويقسم الأيمان المغلظة لمقاتل طالباني بأنه عمل مع الأمريكان لخمس سنوات ليسمح له بالمرور.

• ما سيلي غير معروف لكن ملامحه واضحة؛ .. واضحة بقرار طالبان التفاوض مع أحمد مسعود ابن عدوها السابق أحمد شاه مسعود ليصبح شريكا معها بسلطات محدودة كغيره من مسؤولي النظام السابق وقادة المجاهدين السابقين في سلطة قادمة مؤقتة، لتعمل طالبان إلى التلويح واستعراض القوة بوجه مسعود دون استخدامها مع مد "الجزرة" وهو ما سيعني في النهاية إما احتواءً أو عزلاً وحصاراً أو مواجهة واستئصالاً إن قرر المواجهة وهو أمر مستبعد في ظل غياب أي دعم أمريكي له .. وملامح واضحة للمرحلة القادمة عندما نتابع تصريحات طالبان بأنها تنفذ إرادة "الشعب" (كما صرح المتحدث باسم وفدها في قطر مستخدماً كلمة الشعب مع ما تعنيه سياسياً)، وبأن "الشعب" الأفغاني يريد "السلام" وتعب من الحرب .. وأخيراً (والأمثلة كثيرة وستتوالى) ملامح عهد أفغاني واضح بدا في كيف بدأت محادثات طالبان مع الجميع وعلى رأسهم حامد كرزاي ليشارك في حكومة قادمة وإن كانت السلطة الأكبر فيها حتماً ستكون لطالبان المنتصرة لكن الجديدة في آن حيث لا انتقام وواقعية سياسية.

• هي واقعية وواقع أفغاني جديد تدركه طالبان التي تطورت فكرياً وسياسياً واجتماعياً خلال عقدين من بقائها طريدة ملاحقة خارج السلطة، وخلال عقدين عاش معظم الأفغان الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً والذين يمثلون اليوم عصب أفغانستان في ظل سلطة مدنية حكومية ليس من السهل أبداً بل من شبه المستحيل إجبارهم للتراجع عن قيمها التي نشؤوا عليها وآمنوا بها، قيم تحترم إلى حد كبير حقوق الإنسان والمرأة وعاشت ومارست بشكل معقول العملية الديمقراطية وتمتعت بحد لابأس به من الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية، لكنها قيم لها بعدها الأفغاني الثقافي الإسلامي الذي بدا واضحاً في عدم تبني تلك القيم بنسختها الغربية ومع وجود الأمريكان.

• هو واقع جديد ظهر سريعاً برفض علم طالبان كبديل عن العلم الأفغاني الوطني في مظاهرات في ذكرى الاستقلال، ونساء يتحركن بحرية في المدن يمارسن نشاطهن السابق وكأن طالبان ليست موجودة، وشباب غير مهتمين بإطلاق اللحى ومظاهر كثيرة تدرك طالبان أن مواجهتها ستعني مقاومة ستأتي بصيغ أخرى منها "الثورة" أو حروب مستمرة وهو ما لا تريده طالبان الجديدة على ما أعتقد بشدة، وإن كان البديل سيكون تسوية وسطاً بين طالبان الجديدة وجيل حكومة العقدين السابقين لإدراك الجميع أن لا مجال لانفراد أحد بالسلطة .. باختصار إنه بداية طريق مؤتمر وطني أفغاني حقيقي وعقد اجتماعي جديد قد يحتاج زمناً ليصل منتهاه لكن سيصله بالنيات الطيبة.

• يبقى الأمر الأهم برأيي الذي سيميز المرحلة القادمة؛ إنه الصراع الدموي القادم لا محالة بين سلطة طالبان وتنظيم القاعدة بكل نسخه ومسمياته، فالاختلاف الفكري والسياسي الجذري سيظهر جلياً بعد أن كان غير واضح في نسخة القاعدة الأولى يوم سقطت طالبان قبل عقدين من الزمان، وهو ما سيعني اليوم تكفير التنظيم لطالبان وسلطتها بالاستناد إلى فكرها العقدي وموقفها السياسي المرن كسلطة واقعية الرؤية وعلى رأسها علاقاتها بأمريكا والأوروبيين مقابل عدمية القاعدة، وما تفجيرا مطار كابول إلا طلقة الحرب الأولى لا بوجه الأمريكان كما يردد البعض بل بوجه سلطة طالبان التي ستستأصل في النهاية تنظيم القاعدة وهو ما سيشكل عاملاً إضافياً للدعم السياسي الذي ستتلقاه طالبان من الأمريكي صاحب الأمر في العالم أما الموقف الطائفي والمتطرف في عدائه للإسلام للرئيس الفرنسي المتطرف فيبقى جعجعة لا قيمة سياسية لها وأقل وأصغر بكثير من حتى زوبعة في فنجان. 

أخيراً، وفي المقارنة مع الوضع في سوريا: كنا نسمع عبارة كرزاي سوريا والصحوات، فإذ بطالبان تجلس مع حامد كرزاي بكل تقدير واحترام ليكون شريكاً ولتكون صحوات أحمد مسعود شريكاً لها، وكنا نقول إن طالبان مستقلة بقرارها لكن من يقول ذلك لا يضيف أن طالبان لم تصنف عدوة للغرب ولم تكن تعنيهم كبديل في أفغانستان ما حفظت لهم عدم إعطاء مأوى للراديكاليين أو التسبب بأزمة لاجئين، ولا يدرك البعض أن لا إسرائيل في الجوار لتفرض وتدعم وتعطي الغطاء لنظامٍ طائفي عميل كنظام القرداحة، وأن لا شراهة غربية تاريخية مسعورة للسيطرة عليها كما سوريا وبلاد الشام التي ظلت محل الأطماع منذ الحروب الصليبية التي لم تتوقف وصولاً لاستعمار القرن الماضي، وأن لا جوار إيرانيا صفويا يهدف لابتلاع سوريا كما أفغانستان التي لا تعني الكثير له ولا ترغب الدخول في مستنقعه حيث لا عميل مؤثرا لها عدا أقلية الهزارة الشيعية التي لا تمسك سلطة والتي تعمل طالبان على احتوائها، وأن لا تآمر أمريكيا روسيا أوروبيا على طالبان والشعب الأفغاني إن أراد إقامة دولته المستقلة كما سوريا المحكومة بالحقد الشرس مدعوماً بدول جوار تكره أي ديمقراطية في سوريا والمنطقة حيث يجهد الجميع إلى اختراق الثورة السورية وتدميرها.

أخيراً وبالمقارنة مع الوضع في سوريا؛ يوجد في أفغانستان أطراف مهما تصارعت فإنها تظل حاملة لقيم الانتماء لوطنها غير مستعدة لتدميره من أجل شخص أو عائلة أو أقلية طائفية كما في سوريا المنكوبة بهؤلاء الحثالة، ولنتذكر أن أفغانستان ليست مسرح صراع إقليمي ودولي منذ طرد السوفييت وجل ما يطلب منها كف الإرهاب والمخدرات وموجات اللاجئين بعكس سوريا المطلوب تقييد شعبها وسحقه وتهجيره لتغيير تركيبتها القومية أو الإثنية وتركيعها وتطويعها عبر العملاء الذين يحكمونها بالحديد والنار والعمالة والطائفية والخيانة منذ نصف قرن .. يحضرني هنا تصريح سخيف بل وقح  فاجر لوزير أوروبي منذ أيام (ومثله تصريحات أخرى وآراء غربية لسياسيين إعلاميين ومنهم رئيس أوروبي طائفي) بأنهم لن يعترفوا بطالبان لأن قيمها تجاه حقوق الإنسان والمرأة تختلف عن قيمهم، بينما يعترفون بنظام القرداحة وسفارته مع أنه قتل وشرد الملايين واغتصب زبانيته مئة ألف سورية .. لذلك لا تلوموا أنفسكم كثيراً ولنأخذ من الدرس الأفغاني ما يفيدنا دون جلد للذات بعيداً عن الأساطير فظروفنا للأسف ليست كما في أفغانستان، مع درس واضح نعرفه أصلاً: بأن نظام القرداحة بكل جبروته وسلاحه مقابل بساطة تسليحنا هو نظام ساقط بدون الإيراني سنة 2013 ومن ثم الروسي سنة 2015 وهما الاحتلالان الحقيقيان ولهما نهاية محتومة آتية مع صبيهم ونظام القرداحة الإجرامي. 

التعليقات (4)

    حازم

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    مقال محكم.. كل الشكر لأورينت على هذه الطاقات

    HOPE

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    في نهاية بحثكم كانت الخلاصه في افغانستان وجد العالم بشرقه وغربه ان الانسحاب من افغانستان والسماح لطالبان باستلام الحكم لا يتعارض مع مصالحه وما ترك الامريكان لعتادهم العسكري الا خير دليل مع علمهم بان اللص اشرف غني لن يستطيع مجابهة طالبان. في سوريا العالم اجمع على دعم سفاح بشكل مباشر ام غير مباشر(شرقه وغربه بعربه وعجمه)!!

    Asyrian

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    بغض النظر عن موقفي من الجماعات الاسلامية والاسلام السياسي ولكن الفرق بين طالبان كحركة وبين نظام الاسد.. العالم ترك طالبان لانه ايقن انها لاتتعارض مع مصالحه ولاتشكل خطرا... بينما ترك العالم بشار الاسد بل ودعموه لأنهم على يقين أنه الكلب الاوفى لاسرائيل هو وحلفاءه حزب الله وايران

    احمد المهاجر

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    السيد فواز تللو أرفع لك القبعة احتراما، لقد كنت وما زلت منذ بداية الثورة وحتى تاريخه على نفس واحد لم يتغير بل زاد نضجا ثوريا وعقلانية. لم أتشرف بلقائك، لكني عرفتك عبر الشاشات مناضلا وطنيا منطقيا. لك تحياتي
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات