الجولاني الذي يريد الوصول للسلطة بأي صيغة كانت، وسعى لتصوير نفسه على أنه القائد الجهادي بنسخة مُحسّنة، قابلة للتغيير والعدول نحو الوسطية، وعمل على تسويق وإعادة تعريف نفسه على أنه قائد معتدل وأن تنظيمه معتدل ومحلي، لم يجد حرجاً في مناكفة واشنطن مؤخراً بعد انتظاره فترة 9 أشهر دون أن ترفع إدارة بايدن اسم تنظيمه من قوائم الإرهاب، ولا يبدو أنها ستتجه لذلك خلال الفترة المقبلة، وهو الذي كانت لديه مطامع مباشرة بإزالة تنظيمه عن القوائم الأمريكية مع وصول الإدارة الأمريكية الجديدة.
لذا بدا وكأن الجولاني يناور واشنطن خلال لقاء أجراه مع صحيفة "اندبندنت" بنسختها التركية، يوم الأحد 5 من أيلول الجاري، بل ويهددها بالعناصر الأجنبية في تنظيمه ويستقوي بهم خلال قادم الأيام رابطاً بين نموذج وصول حركة "طالبان" إلى الحكم في أفغانستان وخروج القوات الأمريكية من هناك، وبين وجوده وعناصر تنظيمه الإرهابي على الأرض السورية، معتبرا نفسه المخلص للسوريين والمحرر لأراضيهم من المحتلين وفق قوله وكما وصف الولايات المتحدة.
"الجولاني" أشاد بجهود من وصفهم بـ"الإخوة المهاجرين الذين جاؤوا للمساعدة" وهم العناصر الجهادية الأجنبية في سوريا المنضوية تحت رايته، ليكشف بذلك عن حقيقة تنظيمه غير القابل فعليا للاندماج مع أي قوة سورية محلية على الأرض، المبتعد تماماً عن أي إمكانية من إصلاحه، فهذا حال التنظيمات الإرهابية في أي من بقاع العالم، حيث شدد خلال اللقاء الصحفي على عدم التخلي عنهم وبقائهم في سوريا، لينسف بذلك أي احتمالات لتغيير جلد الهيئة ورفعها عن قوائم الإرهاب مقابل التخلص من عناصرها وقياداتها الأجنبية على أن يدمج ذلك الفصيل المعتدل المفترض مع قوى عسكرية في المنطقة.
في الرابع عشر من كانون الأول لعام 1995 وُقّعت الأحرف الأولى من اتفاقية "دايتون" التي أنهت الحرب في البوسنة والهرسك، وكان من شروط الاتفاقية، مغادرة جميع المقاتلين الأجانب للبوسنة بحلول عام 1996، وهذا ما حصل، باستثناء أن بعض العرب والأوروبيين فضلوا الاستقرار في البوسنة لظروفهم الشخصية، حيث كانوا متزوجين من سيدات بوسنيات، وهناك فئة كانت ستواجه أحكاما بالسجن في بلدانها بسبب ادعاءات الإرهاب، حيث منحهم الرئيس السابق علي عزت بيجوفيتش حرية البقاء، وحصلوا على الجنسية البوسنية لمشاركتهم في القتال.
مع اختلاف الزمان والمكان وبعض السياقات الظرفية، إلا أن الجولاني على ما يبدو يسعى لتكرار التجربة البوسنية في سوريا على طريق توطين الإرهاب من قبل "تحرير الشام"، من خلال الإبقاء على المقاتلين الأجانب في البلاد وسورنتهم لاحقاً، كونهم باتوا جزءاً من السوريين بحسب متزعم التنظيم، معتبراً أن الإرهابيين الأجانب "سعداء بالناس والناس سعداء بهم. إخواننا المهاجرين هم الآن جزء منا، سنحميهم حسب ديننا وثقافتنا".
إن التعامل مع مشكلة المقاتلين الأجانب في سوريا مسألة صعبة ومعقدة، وليس من السهل السيطرة عليها، ولا يمكن في هذا المقام القول إنه بانتهاء الحرب، سيتلاشى السبب الأساسي لوجودهم، فالسيطرة على المقاتلين الأجانب وترحيلهم أمر ليس من السهل تنفيذه، خاصة إذا ما وُجد تنظيم إرهابي كـ"تحرير الشام" يسعى متزعمه إلى إدماج مقاتليه الأجانب في مجتمع الشمال السوري، من خلال العلاقات الزوجية والمشاريع الاقتصادية بمختلف أشكالها التي يساعد فيها على تمكينهم وتثبيت الإرهاب وتوطينه ضمن شرعنة خاصة برؤية "تحرير الشام".
إن استمرار محاولات الجولاني لتعويم نفسه والعمل على دعم تسويقه كقائد لتنظيم معتدل غير عابر للحدود يمتلك حاضنة شعبية ولديه قوة على الأرض تمكنه من مقاتلة أي قوة أخرى مصنفة على قوائم الإرهاب، تصطدم بممارساته وسلوكيات وعقيدة تنظيمه التي لا تختلف بشيء عن تنظيمات "داعش" و"قاعدة الجهاد".
في حين فإن "تحرير الشام" ليس لها أي بعد اجتماعي عصبوي يمكن أن يكون داعماً لها، فيما وحدها المصالح الاقتصادية السبب الوحيد الذي يجمع بين عناصرها، وهي المصالح التي نمت بإدارة اقتصاد الحرب وتبييض الأموال من خلال احتكار الموارد وتوزيعها على العناصر العسكرية، وكذلك من خلال المنظومة الأمنية التي تُرهِب بها معارضي "تحرير الشام".
ختاماً فإن "الجولاني" لا يرى في مدنيي الشمال السوري إلا "ورقة سياسية يستثمر بها"، شأنها شأن كل الأوراق التي استثمر بها ليضمن لنفسه البقاء والاستمرارية، في حين يُخشى على المدنيين أن يكونوا ضحية مشروعه التوسعي وأن يُحوّل الشمال خلال قادم الأيام إلى أفغانستان مصغرة، كالتي تغنى بها خلال لقائه الصحفي الأخير.
التعليقات (3)