رسائل سياسية بأدوات عسكرية كُتبت بالدماء السورية

رسائل سياسية بأدوات عسكرية كُتبت بالدماء السورية
لم يكن مفاجئاً إعلان المبعوث الأممي لسوريا "غير بيدرسون" عن خيبة أمله وفشل الجولة السادسة من مفاوضات اللجنة الدستورية (التي أفشلها وفد نظام الأسد)، المفاجأة لدى السوريين كانت بالسيل الجارف من تصريحات تفاؤلية أغدقها عليهم رئيس وبعض أعضاء وفد اللجنة الدستورية من الطرف المعارض والتي عبّرت عن قناعتهم وتبشيرهم بأن الجولة السادسة ستكون مغايرة وستكون جدّية، وعلى السوريين تحضير السلال لجمع المحصول الوافر من الإنجازات التي سيحققونها في جنيف، وعلى السوريين أيضاً ترقب وتوثيق اللحظة وهم "يخرجون الزير من البير".

تفاؤل الوفد التفاوضي باللجنة الدستورية لم يُعرف مصدره بالرغم من الرسائل الواضحة والصريحة التي سبقت بأيام اجتماعات اللجنة الدستورية وبعضها رافقت الاجتماعات، وتناوب على إرسالها نظام الأسد وإيران وروسيا ووصلت لصناديق بريد الجميع وقرأها حتى من لا يملك بصَراً ولا بصيرة.

رسالة الروس الأولى كانت في قرية "براد" وقرية "باسوطة" بتاريخ 26/9/2021 وكانت الرسالة موجهة لتركيا والجيش الوطني ومغزاها أن خيار الروس والأسد ما زال عسكرياً وليس سياسياً، وأن المطلوب روسياً عودة كل الجغرافية لسيطرة الأسد، وأنه لا حصانة لا لجيش وطني ولا حتى لمناطق واقعة تحت الحماية التركية في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات.

رسالة الروس الثانية كانت عبر قصف بلدة "سرمدا" بتاريخ 16/10/2021 وكانت موجهة لتركيا بشكل خاص عقب تصريحات مسؤولين أتراك عن نيّة شنّ عملية عسكرية في شمال حلب ومناطق شرق الفرات، وأرادت الرسالة القول إنه حتى المناطق الحدودية مع تركيا لا حصانة لها، وإن على تركيا -بدل القيام بعمليات عسكرية شمال وشرق أرياف حلب- التفكير بكيفية حلّ هيئة تحرير الشام وتنفيذ التعهدات التي أعطتها لموسكو، ثم عليها أيضاً تسليم الأوتستراد الدولي "إم فور" (طريق اللاذقية_حلب)، وأن ما سيجري في جنيف من اجتماعات اللجنة الدستورية لن يعيق أو يوقف أهداف موسكو ودمشق باستعادة السيطرة على كل الأراضي السورية.

رسالة إيران كانت واضحة بتاريخ 20/10/2021 عندما قصفت وعلى ثلاث دفعات قاعدة "التنف" عبر الطيران المسيّر بهجومين أعقبهما هجوم صاروخي. تلك القاعدة الموجودة على مثلث الحدود السورية_ الأردنية_ العراقية، في منطقة يُطلق عليها اصطلاحاً منطقة الـ55 كم، ويوجد فيها إضافة لفصيلَي مغاوير الثورة وكتائب أحمد العبدة التابعين للجيش السوري الحر، قوات مشتركة تتبع للتحالف الدولي من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا، ومغزى الرسالة الإيرانية أن البحث عن إخراج إيران من سوريا عبر حلول سياسية تجري في جنيف وأستانا وغيرها ولا يراعي مصالح طهران، لن يُكتب له نصيب من النجاح، وأن إيران باقية وتتمدد، والرسالة الإيرانية أرادت القول لواشنطن وتل أبيب معاً إن ما حصل بالتنف كسيناريو مكرر عما حصل في منشأة النفط السعودية "أرامكو" منذ عامين والآن في التنف، يمكن أن يتكرر بعدها في الجولان وفي العمق الفلسطيني المحتل أيضاً.

نظام الأسد ضرب عدة عصافير بحجر واحد وأوصل عدة رسائل عبر تفجير حافلة عمال "مؤسسة الإسكان العسكري" تحت جسر الرئيس بتاريخ 20/10/2021.

رسالة وجّهها للمجتمعِين في جنيف من وفود اللجنة الدستورية، ومغزى الرسالة أن التفاوض يجب أن ينحصر فقط عبر ملف الإرهاب الذي تتعرض له دمشق، وهذا التفجير يؤكد أن الحرب لم تنتهِ بعد، وأن تلك الاجتماعات ليس وقتها طالما دمشق تتعرض للإرهاب.

رسالة أخرى استثمرها نظام الأسد عبر تفجير دمشق الذي لم يخرج عن إعداد وتنفيذ وإخراج أجهزة مخابراته، كانت موجّهة للمجتمع الدولي ومجلس الأمن، ومحتواها أن دمشق والسلطة فيها لم تستطع بعدُ التخلصَ من الإرهاب بدليل وصوله لقلب دمشق وتفجير الحافلة، وأنه على المجتمع الدولي بدلاً من الهرولة للبحث عن حلول سياسية، تكريس الجهود لدعم "بشار الأسد" والسلطة في سوريا للتخلص من الإرهاب.

الرسالة الثالثة التي أراد نظام الأسد توجيهها كانت للداخل السوري، مستفيداً مما أعد له من التفجير، والرسالة أرادت القول للحاضنة وللسوريين الرهائن في مناطق سيطرة الأسد: لا داعيَ لكثرة الحديث عن نقص رغيف الخبز وغياب الأدوية وفقدان مصادر الطاقة وشح الرواتب وغيرها من مشاكل اقتصادية، نحن نخوض حرباً على الإرهاب وعليكم الصمت وعدم رفع أصواتكم أو التململ والاحتجاج، فلا صوت يعلو على صوت المعركة التي يخوضها "الجيش الباسل" في مواجهة الإرهاب، وأن مهمة النظام بحمايتكم أهم من مهمته بإطعامكم وطبابتكم وتأمين رواتبكم.

وتأكيداً لوصول تلك الرسائل السابقة، وبعد ساعات من تفجير الحافلة بدمشق بتاريخ (20/10/2021) أرسل نظام الأسد رسالة بالبريد المضمون لأعضاء وفود اللجنة الدستورية المجتمعين في جنيف، تتضمن عملية قصف شوارع وسوق مدينة "أريحا" في توقيت ذهاب الأطفال للمدارس، فأوقعت مجزرة بحق الأطفال ومدرّسيهم (14 شهيداً) إضافة لأكثر من 40 جريحاً، ورسالة الاسد دُمغت بموافقة روسية عندما حلق طيران الاستطلاع الروسي فوق مدينة أريحا بعد القصف (كما فعل أيضاً بعد قصف سرمدا) ليقول بكل وضوح إنه موافق على قصف المدينة بـ30 صاروخاً وقذيفة أُطلقت من مدينة "سراقب" التي تقع تحت النفود الروسي والأسدي.

في علم فن إدارة الأزمات هناك قاعدة تقول: في ظل عدم وجود قوة صارمة للأطراف الدولية تستطيع إجبار الأطراف المتصارعة على الجلوس على طاولة المفاوضات والبحث عن حل سياسي، يجب عدم إطلاق أي مفاوضات إلا بعد التأكد من وصول طرفي الصراع لقناعة أن الخيار العسكري لم يعُد مُجدِياً، وأن مرحلة الصراع انتهت أو شارفت على النهاية، وأن كل طرف وصل لقناعة أن التفاوض هو الوسيلة المتبقّية لترسيخ الامتيازات العسكرية التي تحصّل عليها بالحرب، وذلك عبر مفاوضات تُفضي لتفاهمات أو اتفاقيات أو حلول سياسية تُوقف الحرب.

لو أسقطنا هذا المفهوم على ما يحصل في سوريا لوجدنا أن نظام الأسد ومنذ ما يزيد على عشر سنوات، لم يتخلَّ عن الخيار العسكري كنهج وأسلوب في التعامل مع انتفاضة الشعب السوري، وأنه استقدم كل القتَلة من الضاحية الجنوبية وإيران والعراق وروسيا لوأد ثورة السوريين بالقوة، وأن الخيار السياسي الذي يتم تداوله بالإعلام وتتم مناقشته مع المبعوث الدولي ليس إلا وسيلة للمناورة والخداع والغش، وأن قتل أو إبعاد أو تهجير أو اعتقال كل من وقف وانتفض ضد نظام الأسد كان ولا زال هدفاً يسعى إليه النظام، وبالتالي كيف لمن ذهب إلى جنيف أن يخرج علينا بعباراته المنمَّقة ليقنعنا أنه ذاهب ليعود لنا بالبشرى في ظل نظام لا يعرف إلا القتل والسلاح وتضييع الوقت؟، بدليل أن كل جولات مفاوضات السلام في جنيف وكل جولات اللجنة الدستورية وكل جولات أستانا كان مصيرها الفشل وعدم تحقيق أي بند يمكّننا من القول أن هناك تقدماً ولو بخطوة واحدة في طريق الحل.

نقطة أخرى: نظام الأسد ورغم أصعب الظروف العسكرية والسياسية التي مرّ بها بين عامي 2013 و2015 لم يقدّم أي تنازل ولم يسمح بتقدم المفاوضات قيد أنملة، بينما اليوم لديه كل الأريحية في ظل واقع عسكري وسياسي للمعارضة أقل ما يقال عنه إنه مأساوي، وفي ظل مساعٍ للتطبيع معه من قبل بعض الدول العربية، وفي ظل تراجع الضغوط الدولية التي تعكّر صفوه.. ما الذي يدفع بشار الأسد لتقديم التنازلات والرضوخ لحلول رفضها سابقاً؟!

بالمقابل، الائتلاف السوري المعارض وكل مؤسسات الثورة وعلى مدار السنوات العشر الماضية أصرت على استخدام بقاء نفس الأدوات ونفس العناصر ونفس المنهجية وكانت حصيلتهم الفشل المتكرر, ورغم هذا الفشل ما زالت تصر على البقاء والمتابعة وإعادة تدوير الموجود بنفس العناصر ونفس الوجوه ونفس النهج, ثم تخرج علينا محتدّة لترمي بفشلها على شماعة الخذلان الدولي للشعب السوري، متمسكة بشعارات لم تعد تُصرف بالأروقة الدولية من عدالة القضية والحق الثوري والمشروعية الأخلاقية، تلك الشعارات التي أصبح الطفل السوري يصاب بالغثيان لدى سماعها من كثرة تكرارها دون جدوى.

متى ندرك أن شوكنا لا يُقلع إلا بأيدينا؟؟ وأن الرهان على الخارج سيدفع بنا بالنهاية لنجد أنفسنا في حضن نظام الأسد مجبرين غير مخيرين.

متى ندرك أن علينا التحرك وبأقصى سرعة وعبر مؤسسة الائتلاف الوطني للدعوة لمؤتمر وطني جامع لا يُقصي ولا يستبعد أحداً،  وعبر ما يُفرز المؤتمر يتم تغيير أدواتنا العسكرية والسياسية وإعادة هيكلة مؤسساتنا واستبدال الموجود بوجوه وطنية فعالة، مع صياغة مشروع وطني واقعي لا طوباوي، يؤسس لموقف تفاوضي عسكري وسياسي جديد، هيكلية تعيد لمؤسسات الثورة أولاً الشرعية الشعبية التي فقدتها منذ زمن بعيد، وللثورة السورية تعيد لها احترامها المفقود بسبب أدائنا الرديء.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات