الهوية الوطنية السورية وفرصة إعادة إحيائها

الهوية الوطنية السورية وفرصة إعادة إحيائها
لو أردنا أن نحصر الجرائم التي ارتكبها حافظ الأسد بحق سورية والسوريين منذ استلائه على السلطة بانقلاب عسكري واضح المعالم عام 1970، لاحتجنا إلى مجلدات ومجلدات تبدأ فصولها بإفساد التعليم والقضاء، وتنتهي بتدمير المدن والبلدات والقرى السورية فوق رؤوس أهلها المدنيين. ولكن وبعد عشر سنوات من انطلاق الثورة السورية العظيمة التي جوبهت بالحديد والنار، وبعد خروج معظم السوريين من قمقم الاستبداد، والبدء بتبلور نوعاً ما أحاديث في السياسة خارج الصندوق الأسدي، وبروز شخصيات سورية وقفت مع الثورة وناصرتها وأيدت مطالبها، كل ذلك تسبب في الكشف عن أخطر وأبشع جريمة ارتكبها حافظ الأسد بحق الشعب السوري، وهي جريمة طمس الهوية الوطنية  السورية، وجعل تلك الهوية تتراوح ما بين الكثير من الأفكار والإيديولوجيات. ولكن قبل الدخول في التفصيلات هناك حادثة أود أن أذكرها تفيد في شرح الفكرة.

في أواسط الثمانينات زارنا في دمشق أحد الأقارب من الأردن، وقدر أن أكون دليله السياحي في دمشق، وفي أحد الأيام صادفت سياحتنا مع هذا القريب من أمام مكتبة ميسلون ورأى قريبنا كتب كارل ماركس وفلاديمير لينين معروضين على واجهة المكتبة، واصلنا سيرنا ووصلنا قرب جامعة دمشق فشاهد على الأرصفة بيع صور لجمال عبد الناصر وبعض الكتب القومية، ووصلنا إلى مكتبة النوري فشاهد قريبنا الأردني عشرات الكتب الإسلامية لمختلف الكتاب. وفي عودتنا إلى حي الأكراد مكان سكني شاهد في بعض المتاجر صوراً للقائد الكردي مصطفى مُلا البرزاني، هنا لم يعد يتحمل قريبي، فقال لي: "نظامكم كما نعرفه نظام ديكتاتوري استبدادي، فكيف يسمح ببيع تلك الكتب ولا سيما مؤلفات ماركس ولينين  وعرض تلك الصور هكذا علناً، نحن لا نجد أي شيء من هذا القبيل في مكاتب عمان". هنا نفشت ريشي كما ينفش ديك أبو علي ريشه وقلت له مستهزئاً بنظامه الملكي: "بأننا في سوريا صحيح النظام ديكتاتوري، ولكنه نظام تقدمي وأنتم والدول العربية ذات النظم الملكية أنظمة رجعية".

الفكرة من سرد هذه القصة، التأكيد على أن نظام حافظ الأسد لم يسمح بتداول العديد من الأفكار الإيديولوجية في سورية، من زاوية الحرية الفكرية وحرية الرأي، ولكن من زاوية تشتيت من يتعاطى السياسة خارج إطار منظومة حزب البعث بين العديد من الإيديولوجيات، فلا مشكلة عند هذا النظام القاتل بأن يكون الشخص ماركسياً لينينياً أو قومياً عروبياً أو حتى إسلامياً، كل ذلك مسموح شريطة عدم الاقتراب من خط أحمر واحد هو كرسي الحكم، وعندما تجاوزت بعض التيارات هذا الخط كالإخوان المسلمين، وبعض الفصائل الشيوعية كرابطة العمل والمكتب السياسي تم قمعها وسجنها وأذاقها أبشع أصناف التعذيب.

وإضافة لحالة التشتيت الإيديولوجي التي فرضها حافظ الأسد على النخب السورية، فإنه لم يسمح بحدوث أي ظاهرة تؤدي لتعزيز الشخصية الوطنية السورية تكون خارج فلكه، ولم يسمح لأي شخصية سورية يمكن أن تكون محل إجماع السوريين بالبروز، ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو المرحوم سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى، فهذا الشخص صاحب نداء "يا أيها السوريون" كان بإمكانه أي يكون حالة رمزية وطنية يجمع عليها السوريين، كحال سعد زغلول في مصر وعبد القادر الجزائري في الجزائر وعمر المختار في ليبيا، ولكن حافظ الأسد بمكره وخبثه، عزل المرحوم سلطان باشا الأطرش في بلدته القريا، ومنعه من لعب أي دور بارز في سوريا، حتى لو كان دوراً اجتماعياً وليس سياسياً، وحتى بعد أن توفاه الله لم يسمح حافظ الأسد بإقامة أي تمثال يخلد مسيرته الوطنية، ولم يسمح للسوريين من الاحتفال بذكرى وفاته. ويمكن أن نقيس ذلك على نزار قباني وعلى جلال صادق العظم. حتى في الأمور البسيطة غير السياسية لم يسمح حافظ الأسد بأي ظاهرة تؤدي لتعزيز الشخصية الوطنية السورية، فلم يسمح على سبيل المثال لفريق كرة القدم السوري بالوصول لأي بطولة عالمية على مستوى كأس العالم (وأقول لم يسمح عن وعي لتأكدي بأنه لو أراد لاستطاعت سورية بلوغ هذا الحدث الرياضي) حتى لا يشكل هذا الحدث الرياضي الشعبي حالة من إجماع وطني سوري، وحتى لو جُيّر لشخصه على أنه من إنجازات القائد المفدى، وبالعكس تماماً فقد عزز حافظ الأسد ونظامه حالة التشتت والتشرذم بدعم وتعزيز المنتخبات الكروية المحلية مثل الاتحاد الحلبي الذي استطاع أن يحصل على بطولة آسيا للأندية. حتى في الحالة الرياضية الوحيدة التي كان بإمكانها أن تخلق نوعاً من تعزيز الهوية الوطنية السورية وأقصد حصول غادة شعاع (بغض النظر عن موقفها السافل من ثورتنا العظيمة) على الميدالية الذهبية في أولمبياد أتلانتا عام 1996، عمل حافظ الأسد على تهميشها وتحيدها عن أي ظهور إعلامي حتى لا تتحول لظاهرة سورية على غرار ظاهرة لاعب كرة القدم المصري محمد صلاح لاعب فريق ليفربول الإنكليزي (طبعاً مع الفارق الأخلاقي بين الاثنين). كل هذا حدث في سورية في الوقت الذي كانت الدول "الرجعية" تعمل على بناء بلدانها وتعزيز شخصيتها الوطنية فأصبح السعودي ولاؤه التام للسعودية والكويتي ولاؤه التام للكويت والأردني ولاؤه للأردن وهكذا كافة تلك الدول. بينما تشتت الشعب السوري ونخبه السياسية بين العديد من الولاءات والهويات.

وبكل أسف انعكس ذلك، وظهر جلياً بعد انطلاق شرارة ثورتنا العظيمة في أواسط آذار من عام 2011، والتكلم هنا ليس على عامة الشعب السوري الذي فجر تلك الثورة، بل على النخب السياسية التي تصدرت الواجهة السياسية لثورتنا العظيمة، سواء كانوا يساريين أو قوميين أو إسلاميين. حيث لم يستطيعوا هؤلاء من التأكيد على الهوية السورية على الرغم من أن كافة أدبياتهم وبياناتهم خلال الثورة،  تقول بأنهم يعملون على تعزيز وحدة سورية ككيان سياسي، ولكن في واقع الأمر لم يتخلوا عن مقدساتهم، فعندما تقول للقومي العروبي بأننا في سبيل تعزيز الوحدة السورية يجب أن نزيل اسم العربية من اسم سورية أو أن تقترب بالسوء من جمال عبد الناصر (المصري)  تجده صاح بأعلى صوته "ياللهول!!!" تريدون طمس هوية سورية العربية، وعندما تقول للسياسي الإسلامي يجب فصل الدين عن الدولة والسياسية وأنه لا مجال في سورية إقامة خلافة على غرار خلافة الراشدين (غير سوريين) تجده ينادي: "يالغيرة الدين!!!" يريدون طمس الهوية الإسلامية لسورية، وكذلك الأمر لليساريين الماركسيين فعندما تقترب من مقدسهم كارل ماركس يثور ثائرتهم ويصيح لا يسار دون ماركس (الألماني). وعند الكُّرد في حال اقتربت من مصطفى ملا البرزاني (العراقي) أو من عبد الله أوجلان (التركي) تجدهم يتخندقون بخندق قوميتهم على حساب بلدهم سورية التي عاشوا بكنفها مئات السنوات. وكأن الهوية الوطنية السورية عند هؤلاء جميعاً لا تصلح أن تكون هوية الوطن سورية. وخلال الثورة العظيمة عمل بشار الأسد الوريث القاصر على نهج والده، وذلك بطمس أي حالة يمكن أن تكون حالة وطنية سورية، فعمل على اغتيال مشعل تمو، وتحييد منتهى سلطان الأطرش وتغييب كلاً من شبلي العيسمي وعبد العزيز الخير.

هذه هي الجريمة الكبرى التي ارتكبها نظام الأسد الأب وتابع بها الوريث القاصر بشار الأسد، ويجب أن تعلم النخب السياسية السورية بأنه في حال أرادوا الانتصار على عصابة آل الأسد فيجب عليهم وضع إيديولوجياتهم باختلافها قومية أو إسلامية أو ماركسية، في الأدراج والقفل عليها بمفتاح ورمي في المفتاح في البحر، وأن يعملوا جاهدين لتعزيز الهوية الوطنية السورية، وصحيح أن هذا لا يحدث بين ليلة وضحاها، وأنه يحتاج لعشرات السنوات لبناء تلك الهوية، ولكن أيضاً يجب أن تعلم تلك النخب السياسية أنهم حتى إن لم يكملوا بناء تلك الهوية إلا أنهم ينالون شرف البدء بهذا العمل الوطني الهام وأن التاريخ سيذكرهم كبناة حقيقيين للهوية الوطنية السورية، فبسمارك الألماني وجاريبالدي الإيطالي لم يبنيا الهويتين الألمانية والإيطالية ولكنهما زرعا البذور الأولى لذلك، ولم ينسهما التاريخ لغاية الآن. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات