رواية (حب من عمر الآلهة) لأنجيل الشاعر: امتحان العقائد في حب درزية ومسيحي!

رواية (حب من عمر الآلهة) لأنجيل الشاعر: امتحان العقائد في حب درزية ومسيحي!
حرتُ فعلاً كيف أقدم أنجيل الشاعر التي أكتب عن روايتها (حب من عمر الآلهة) الصادرة عام 2020، هل أكتب عن منشئها في قرية نائية جداً معادية بيئياً  واجتماعياً.. أم أتكلم عن ميلادها وسط أسرة أثقلت كاهلها بوجاهة العائلة وإرث المذهب العصي، أم أتكلم عن الفتاة الجميلة التي سيقت إلى مصيرها كما كل نساء عالمنا فأقصيت عن طفولتها وأحلامها. 

كاتبة تحمل شهادة العزيمة والحياة

 

أنجيل انخرطت في حياتها الزوجية كأم عظيمة تنجب وتربي، كل مواسم القحط عاشتها، كل مواسم الثمر باشرتها وخزنتها، كل قضايا النساء عاشتها فقط اختلفت بموهبتها التي لم تصقل بمؤسسة ولا مدرسة ولا جامعة.

كل ما كان يحيط بها يباب إلا داخلها الأخضر كان حيوياً يعشق هواء الحرية والشمس، لقد آمنت أنه لا بدّ أن نسرد حكاياتنا، وأن الراهن يتطلب أن نكشف أسرارنا التي كنا منها فعلاً وفكراً وثقافة.  

أنجيل تلك المرأة التي لم تحمل شهادات فقررت أن تكون هي المدرسة والشهادة وكان لها بدأبها وصبرها وقوة عزيمتها ما أرادت، أتقنت عجن الحروف وتخمير الفكرة كما كانت تتقن عجينها، حصدت التجارب كما برعت في حصاد القمح والحبوب في قريتها بوسان، وأحسنت تنقية الجوهر والعارض كما أحسنت نزع الشيلم والزؤان من الحنطة. 

وكما لم يفعل أحد منا كانت جريئة أطلقت سراح أفكارها ووصفت تفاصيل خصوصية في روايتها، ثم انطلقت تشرح وتفكك ما غار بعيداً وقالت قولها عبر شخصيات رواياتها الذين هزموا جميعاً وخابوا، إلا هي مضت كما مضت بطلة روايتها (سهى) مع طفلتها (شمس)، لتعلن قدوم صحوة ويقظة وفجر بألف شمس مشرقة.

العنوان والمكان

عزيزي القارىء، ما عليك إلا أن تتبع مؤشرات العنوان لتعيد أنت نفسك إحياءه، كل العناوين هي عتبات لا نهائية للتأويل، وحدها تثبت ملكية النصوص، اقرأ العنوان: "حب من عمر الآلهة" واستأذن الدخول، النص يريد أن يحيا دائماً، وكل نص حي هو نص يقرأ من العنوان ودائماً لا يركن طويلاً إلى الرف. 

   

عنوان راوية أنجيل الشاعر الأولى يقودنا إلى عالم الرواية، العنوان مثل سدى شديد اللحمة عليك أن تفككه لتصل ولتعرف كيف حيكت خيوطه الدلالية، كل النص بكل التشابكات والأحداث والرؤى والمحددات هو العنوان، العنوان مرتبط بالدلالة الكلية للنص الروائي.

 

مكان الآلهة، آلهة الحب هو المكان نفسه الذي انفصلنا عنه مادياً وعشقناه وبقي يمور في السحيق من الأعماق، بين اتصال وانفصال...بين وجع وفرح... بين أمل ويأس، حقد وسلام.  

هكذا هي بنية العنوان الذي يأخذك للنص، النص الذي كان مداه وسجنه نفس المكان هو رحم كل ولادات الفكرة العنوان، وأفكار النص ودلالاته، عقدت العزم أن أقرأه مرات ومرات. 

سهى.. بطولة نسائية!

نون النسوة تريد أن تكون وجوداً تواصلياً، كياناً مستقلاً، متحرراً من كل قيود الذكورة، متماهياً مع قضية وهدف الإنسانية، شغلتني (سهى) البطلة في الرواية، سهى التي أوجعها السؤال لماذا الذكر لا عيب له؟ لماذا تموت ليندا؟ لأنها كشفت شعرها؟

 

في الصغر لم تجد جواباً، ذهبت نحو الاتجاه الآخر، حاولت أن تتقمص الذكورة بطقوسها البيولوجية لتريح نفسها من عناء الحيرة والسؤال، وتتحول (سهى) عبر مسار حياتها بمأساتها وقلقها وتناقضاتها ومشاعرها وعقلها إلى صورة تختزل وتكثف كل النساء في بلادي، لكن (سهى) تملك ذاكرة  تكشف الانفعالات الجميلة والأليمة وكيف كانت مرات مشلولة في الصراع مع الذات والواقع عند موت ليندا المأساوي، ومرات كانت تملك حنكة الآلهة في الالتفاف على واقع يدعي المجتمع فيه الفضيلة.  

 

سهى الشخصية التي تشبه كل النساء ولا يشبهها أحد تتطور شخصيتها عبر مناجاة وعمليات نفسية ترويها وتكشف مدى النضج الذي أتاح لها في النهاية أن تمارس حياتها بكل حرية وتتحدث عنها بكل حرية.

 

سعيد وجورج وإشكالية الهوية

سعيد ابن جبل العرب والطائفة المعروفية، وجورج المسيحي ابن لبنان، بقيا أبناء المغلق الأيديولوجي الذي عطل تحررهما النهائي، سعيد الذي تزوج سهى أخت ليندا الضحية وجورج الذي أحبته سهى حباً تمتد جذوره إلى أول آلهة، وعلى غير المتوقع، يتجاوز سعيد الثابت ويتجه نحو شخصية محملة بالفكر، بينما يعود جورج إلى الثابت صاغراً لنتبين أن موهبته وأضاليله الإنسانية لم تحل دون ذلك.

هنا تريد أنجيل الشاعر القول إن الأمر الإشكالي هو الهوية بكل أبعادها المركبة، وإن التنوع والتعدد الذي أشعل أوار الطائفية والتخلف والحروب المعلنة أو غير المعلنة، يمكن أن يكون تنوعاً مخصباً جداً على ضوء ثقافة خلاصية فحواها الإنسان ومداها الوعي والمعرفة.

الأم وصندوقها.. والجد وحكمته

الأم في رواية أنجيل الشاعر هي التي حملت في وجدانها العميق إرثها من الآلهة الأم، آلهة الخصب والنماء والحكمة، وعندما انتصبت الذكورة معلنة انتصارها المأزوم، تكورت الآلهة وتشرنقت تحتضن تاريخها البيولوجي والحضاري ودخلت في كمونها.

  

كثير من النساء مثل أم سهى في الرواية تابعن صاغرات الأدوار التي هندستها الفحولة وضمناً تصرفن بحكمتهن التي كانت في البدء، أما الصندوق فهو يرمز إلى ميراث جمعي تتناقله النساء في بلادي، صندوق فيه كل فنون وعلم صنع الحياة والجمال والقيم.

 

أما الجد العارف، بالمعنى الصوفي والمعنى المنطقي فتشير شخصيته إلى أن الذكورة أوقعت نفسها في غطرستها وإفكها، واعتقدت أن التمظهر والتقنع يغني عن الأصالة في الفكر والوعي والمعرفة، وأن طقساً اجتماعياً ظالماً له سنن التستر والسكوت سيُغني عن فعل الحياة والتحضر والسخرية. 

 

هنا تبزر ثنائية الجوهر والمظهر من (براني) (وجواني)، إذ يتبين أن الجد قد تفرد في معرفته التوحيدية بإرثها الغنوصي واليوناني وما بينهما وما بعدهما، ولكنه بشيم العارف والمتصوف والزاهد تقبل المجتمع الغالب وصمت وخبأ وتستر على معرفته، وهنا إشارة إلى غربة العقل ومحنته في هذه البلاد بعرضها وطولها، من محيط مضطرب إلى خليج منتهك. 

جورج يسقط في الامتحان!

وقفت كثيراً عند حدث ذهاب سهى إلى بيروت وماذا أرادت الكاتبة من غض الطرف الذي قامت به الأم، وخاصة في معرفتها أن سهى ستكون مع جورج.. جورج اليساري المسيحي الذي سيسقط في امتحان الحب، حين ترفض أمه زواجه بسهى لأنها "كافرة".

 

في الواقع حدوث مثل هذا وفي معايير ذلك الزمان وحتى هذا الزمان أمر لا أتوقعه حتى استثناء، ولكن للمبدع كل فضاءات الخلق وله أن يخترق كل التابوهات، وهنا أرى أنجيل تومىء إلى روح الآلهة في أمها التي عادت في لحظة هاربة من معاقل الزمن والذكورة والدين، لتسقي نسغها بعض من خصوبتها الألوهية، على كل الأحوال حدث ذلك  في حب من عمر الآلهة ولكل منا تأويل وقراءة. 

لم تعد الكاتبة مالكة إلا للعنوان وماعلينا نحن القراء إلا أن نميت ونحيي القصة إلى ما شاءت الرواية من انتشار.

 

أما بعد... فأوقن أن (اليقظة والموت) حالة تعيشها كل النصوص، لكن موتها سيكون واحداً أما حيواتها فقد تتكرر إلى ما لا نهاية، ثمة نصوص أخرى قد تموت وتحيا لفترات قصيرة، وهذا الأمر متعلق تماماً بالجدلية الأبدية بين الأثر والمتلقي، ورواية (حب من عمر الآلهة) لديها القدرة على أن تترك الأثر – بتصوري – حين يكون ثمة متلقٍ مستعد لأن يقرأ.  

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات