خالد العيسمي: ابن صحنايا اعتقل بسبب أطفال داريا.. فصار شعره وطناً بلا حنين!

خالد العيسمي: ابن صحنايا اعتقل بسبب أطفال داريا.. فصار شعره وطناً بلا حنين!
لأنه ابن (صحنايا) المجاورة لـ (داريا) التي عاشت الحصار الخانق لسنوات، فقد قبض عليه مشهوداً وهو يقترف جريمة جلب الخبز لأطفال داريا. كان القاضي والمُدان (عصام زهر الدين) وكانت التهمة التخابر مع (إسرائيل) والإرهاب والتخطيط لاغتيال زهر الدين نفسه.

 

خالد معتقلاً: معجزة أنقذته من الموت!

مثل تلك التهم كانت توزع بسخاء، وكان المقبوض عليهم قيد منع من التكلم. وفي المعتقل تبدو كل الاحتمالات قائمة، إلا احتمال أن تعود حياً أو سليماً. كل التجاوزات اللامعقولة موجودة إلا الرحمة، وكل الحواس مستنفرة إلا أن أحداً يريد أن يصغي لك.

في المعتقل فقط أرواح وأجساد معذبة أمام آلة تعذيب وجلاد وغريزة وحشية بلغت ذروة التلذذ السادية وتريد أن تستزيد. في المعتقل لا حلم ..لا ذكريات.. لا موهبة لا أمل... ولا أمنية. وحده الموت يتحول إلى أمنية ويمد أذرعه مداعباً ومتجولاً.. فهو سيد الموقف في كل لحظة. 

ولكن خالد فواز العيسمي، كان على موعد مع معجزة أنقذته من مصير محتوم. وبعد جولات تحقيق دامية ومريرة بُرّئ وخرج حياً لكن ليس آمناً ولا مطمئناً. بدأ رحلة الهروب التي كانت نفسها قصة يتشارك فيها مع السوريين الذين ولوا وجوههم شطر الجهات الأربع.

كان قبل حين في العراق يبحث عن رزق حلال يؤتى أجره كما يستحق... وقبل ذلك كان يعمل لدى وزارة النفط وبذمته وذاكرته مالم يرو بعد. في الوداع الأخير لوالده، وعد خالد ضمناً بأن الأمانة بلغت، وأن ما أورثه الأب كان كنزاً وفيراً يقتضي الوفاء ومتابعة الطريق. 

خالد شاعراً: لا ألوم نفسي إن هجرت شعور الحنين!

أجد نفسي في حيرة وأنا أحاول العثور على بداية للحديث عن خالد العيسمي الشاعر، الذي أصدر العام الماضي مجموعته الأولى بعنوان (مُرّ بي)  عن (دار نرد للنشر والتوزيع) وهي في أربع وثمانين صفحة، متنقلاً بين الشعر والنثر بروح منسابة بالدفء والألم والهمس الصافي الأخاذ. 

فكل قصائد خالد بدايات. ولكل قصيدة سردية وذكرى وحنين وعشق ولذلك قررت أن أدخل حدائقه المعلقة من أقرب متناول، ومعاً لنقرأ قصيدته (لا ألوم من يهجر وطنه) والتي يقول فيها:

لا ألوم من يهجر وطنه

دون عصافير

فيه (نزار) أو (درويش) تهمة سياسية

لا ألوم من صار يحاذر

أن يسند تعبه على جدران وطنه

وقد غرست في ظهره نصال الشعارات العقائدية

لا ألوم جندياً يقتل أهله بدم بارد

لم يُقرؤوه يوماً إلى جانب السلاح رسائل الحب والحرب

ولن ألوم نفسي بعد اليوم إن هجرت شعور الحنين لك  يا وطني

خالد هنا يقدم تبريراً لمن ترك الوطن، وخاصة أن التراشق بالتهم والتهم المضادة، وتحميل المسؤولية غدا حالة سورية عبثية جامعة، بين من بقي في الوطن، ومن دخل التيه والهجرة. أو بين ما عرف بالمعارضة والموالاة.

يفند خالد أسبابه وتبدو هنا حقيقية تماما: نزار قباني ومحمود درويش وغيرهما من مفكرين وشعراء باتوا تهماً. هذا يعني أن الفكر والفن سبة وعار بعرف السلطة السياسية... ولهذا ينتقد هنا شعارات الوهم العقائدي، وقد تحولت إلى نصال غدر بتهمة خيانة العقيدة.

وعندما تفرز الحرب ثقافة الحضيض والقتل، يقول خالد ما معناه: إن الجندي في بلد العقائد لم يتعرف قط على مراتب وأمداء الحب والإنسانية.. وهو نفسه هنا يكاد يفقد شعور الحنين للوطن.. فما الذي يحدث حين يفقد الشعراء حنينهم؟! أي موت وأي معنى؟!!

قصيدته التي عنونها بـ (يا صاحبي) مرثية أخرى من مراثي هذا الوطن الذي اعتقل فيه.. مرثية يقول فيها: 

يا صاحبي خمسون عاماً لم يكتمل نصاب الوطن

فجند بلادي تسرقنا في السلم

وتقتلنا في الحرب

ثم تبيع جسدنا موقداً

لسماسرة العصر...

يلخص خالد بكثافة مشهدية خمسين عاماً مرت ولم نعرف بعد ما أبعاد الوطن الذي يريدونه لنا. ويشير مرمزاً للجند العقائديين الذين تحولوا إلى عصبة تشارك السلطة في النهب وتشرعن كل موبقاتها، فيأتي حديثه بسيطاً مرسلاً بلا تكلف أو تنميق.. وكأنه يستسلم للخطاب على هذا النحو كي يقول ما يقول: 

وفي الحرب يكون الشعب رهين احتلالات متعددة

تتصارع على مصالحها.. ولا تثريب

 إن كانت جثثنا وقود هذا الصراع.

خالد عاشقاً: كيف أكتبك قصيدة عشق؟

في قصيدته (حين أحب) ينحو نحو مشاعره الذاتية. نحو الذات الشاعرة، فيمتزج الحب بالقصيدة.. لكن مفردات الاثنين تتربص بالاثنين معاً: 

حين أحب

تصبح القصيدة

بعرفٍ تقادم الوقت عليها شاهدة قبر

أما بعرفك فهي مستقر تعاقب الليل والنهار

وما أصل القصائد إلا

حالة نطق بعد الموت

تتقمص حياة جديدة

أشتق من اسمك عنوانها

ثم أذيل نهايتها بتاريخ موتك

كيف أكتبك قصيدة عشق

وأنا أرى في الدفاتر قبور الحب

هنا يبدو خالد فيلسوفاً بطريقة خاصة، وحكيماً يبتكر معاني جديدة للحب والقصيدة. الحب في عرفه، حالة يقظة وموات وهكذا إلى الأبد.. تبقى متناغمة مع الغيبة والعودة المنتظرة. وفي كل ميلاد لقصيدة جديدة، يشتق من اسم الحبيبة عنوانها ويذيل النهاية بموتها منتظراً يقظتها. الحبيبة هنا أكبر بكثير من مقام قصيدة عشق، ولا تتسع القبور لجذوتها وشعلتها ..

وفي قصيدة (ذمة)

تقول الريح للقصة بقية انكسارات بذمة الأبواب والنوافذ الموصدة

تقول الرواية

للقصة بقية مخاض بذمة الخاتمة

تقول الموسيقا للقصة بقية فضاء بذمة تجويف أرواحكم

تقول الحياة

أصل البقية

خدعة بوح صامت

اذا ما قيل نقص الجمال

ولما قالت :جئتك من بقايا الحكايات

قلت: لها لك في ذمتي أسرار البدايات

خالد هنا فيلسوف الشعر يقول قوله في الذمة. وعلى ذمته:

 لا تكتمل قصة في هذه الأرض.. 

وكل الظواهر والكائنات مكسورة الخاطر

ولم تبلغ الغاية والوطر بعد

فالريح لم تأخذ مداها

ولم تقتلع ما شاءت.. ولم تكنس ما أرادت ولم تذر ما أرادت له ذلك

لأن الأبواب الموصدة والنوافذ حالت دون رغبتها

والموسيقا تلك الأنبل والأكمل والأجمل. لم تكمل بوحها..

لأن الأرواح حجبتها في صمت تجاويفها..

وأما الحياة فلم تدرك قط بقيتها.. 

ولا غايتها ولا معناها ولم تبلغ نشوتها وذروتها ..

وأما الحبيبة ...فتعتقد أنها بقية الحكايات

ولا تدرك أن العاشق فرش لها أسرار البدايات.

عاشق دمشق وسردية الروابي

أما في سردية الروابي لنرى أين حط رحال خالد (حلمة رابية) وهو يستجلي عقدة الفطام، وخوابي العطش، في قصيدة لا تخلو من ملامح إيروتيكية  للوهلة الأولى وهي تستحضر تفاصيل جسد الأنثى: 

لا تنتصب حلمة رابية ..

إلا من شفاه شرهة مصابة بعقدة الفطام

ولا يتعرق المعبد بين عامودي رخامها..

إلا لبربري يعرف كيف يتصاعد.. مع حوار النشوة

إلى قصيدة غزل

منك خوابي العطش

وعليّ ملؤها بالحليب الإلهي. 

خالد هنا حمولته ثمينة، عاد فيها من غوصه المحترف في سحيق النفس الإنسانية. تلك النفس التي قيدت بمركب عقد، وكل ذي عقدة يبدي حالة الشره وفوضى الحواس تشوّش الرؤية، فيفقد المعنى والهدف والوسيلة. و"الحلمة" هنا يقصد بها الوفرة والبركة، التي بذرت وبددت ونهبت ولم نشبع منها قط. وأما المعبد العتيق المستقر بين عامودي رخام، فيتناغم فقط مع ابن الحياة والطبيعة. والذي ما زال ناسكاً متعبداً لنواميسها وطقوسها!

وحده ذلك النقي الطاهر، يعرف الجدل الصاعد حتى قصيدة غزل. وهكذا ترغب الآلهة أن تملأ خوابيها بماء الحياة؛ فكم هو جدير حوار حب بلغ منتهى ذروة وصهوة نشوة بهذا الرواء والامتلاء.... 

لو تعرفين

لو كنت صحراء

أو حتى لمحت ذوائب الرمال على سفوحك

لكنت أدركت أن انهمار نشوتي فوق روابيك جريمة اغتصاب

لكنك رابية خضراء

شبقة بمضاجعة السيول

تسمي سقوط المطر حب

والعطش اغتصاب

فكيف لا يحلم من مثلي بعصر مطير

وقد بدأ بياض السحب يغزو ذوائبه

لو تعرفين

أنك أجمل ما ملكت أيماني.

خالد شاعر (الضوء) هو عاشق لدمشق. دمشق التي بلغت قصتها الأزمنة كلها وفاضت بها الأمكنة وبلغ وجعها سقف العالم، وأما عشقها... بلغ موتنا لأجلها. دمشق رابية ذات اخضرار أبدي ..

لم تكن يوماً إلا بداية، وإلا قصة خلق... ومعجزة تكوين. منها البدايات كلها وفيها سيكون الاكتمال.

خالد العاشق يخاطبها كعاشق اكتهل بحبها، وهي تريد مبادلته حباً ورغبة... كل السيول لم ترو شبقها وكل حبات المطر كانت فصول حب، وكل سوري يحلم (بعصر مطير) عصر يروي دمشق حتى تبلغ فيه المقام والمرام والشأن.

يقول لها خالد: إنها لم تعلم بعد مقدار حبها.... بل هي أجمل ما غنى الوجود لأنها من روح النور والضياء.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات