وقحو الفيسبوك وجبناؤه

وقحو الفيسبوك وجبناؤه
كتب الشاعر العزيز محمد علي اليوسفي على صفحته بتاريخ 15 ديسمبر 2019 قائلاً: "سؤال يحيّرني: لماذا يُسلِّح الفيسبوك  الخجولَ بالوقاحة والجبانَ بالجرأة؟"

وسؤال كهذا سؤال مهم جداً في هذا العصر الذي أتاح لكل من تعلم في المدارس ان يكتب دون أن ينتمي إلى صنف الكتّاب بالمعنى المتواضَع عليه. ناهيك عن أن كثيراً ممن امتهنوا الكتابة وجدوا في وسائل التواصل مكاناً يسعفهم في قول ما يريدون قوله.

إن سؤال الشاعر محمد علي اليوسفي سؤال احتجاجي بالأساس، وأعتقد بأنه على دراية بالجواب. غير أني وجدت في السؤال فرصة لفض هذه الظاهرة المشينة. مشينة لأنها تنتمي إلى قيمة سلبية يدينها الوعي الأخلاقي ألا وهي الوقاحة الجبانة، فوقاحة الجبناء تختلف عن وقاحة مواقف الشجعان، الأولى طعنات في الظهر وهروب من المواجهة، والثانية مواجهة وجهاً لوجه. ولتحليل هذه الظاهرة وفهمها لا بد من العودة إلى مفهوم المكبوت.

المكبوت نوعان: نوع لا شعوري لا يظهر إلى في حال تراخي سيطرة الأنا (في الحلم، في حال السكر، في زلات اللسان) وهذا ما أشار إليه فرويد. وهو مكبوت ليست الذات مسؤولة عن وجوده وظهوره. أما النوع الثاني فهو المكبوت الشعوري، حيث يقوم الفرد بكبت ذاته إرادياً، إما خوفاً أو مصلحة، أو خجلاً أو تآمراً.

وأسوأ أنواع الكبت الشعوري كبت الشر تجاه الآخر، لأن كبتاً كهذا ينتظر الشرط الملائم للظهور. وتكون الدهشة كبيرة في ظهور المكبوت العدواني لدى فرد تجاه آخر أظهر له وجه المحبّ زيفاً.

إذاً تنتمي ظاهرة الطعن في الظهر إلى المكبوت الإرادي، الذي يظهر في تنمّر الجبان ووقاحته.

اشتقّت العرب المُواجَهة من الوَجْه، حيث تكون المحاورة أو المشاجرة، أو الاختلاف الصراعي بين اثنين وجهاً لوجه.

دَعْني من الحروب بين جيوش الدول، أو الصراعات الجماعية، وتأمَّلْ معي المُواجَهة بين رأيَي اثنين، قد تنتهي المواجهة إلى اتفاق، أو إلى تعميق الخلاف، أو إلى وقوف كل طرف عند رأيه، وتنفضّ المواجهة.

في المواجهة الفكرية ليس هناك غالب ومغلوب بالمعنى الحربي للكلمة، بل كل طرف هو غالب، حتى لو لم ينجب القناعة لدى الآخر برأيه. ولكن قد تختلف آثار المواجهة النفسية عند الطرفين، فقد يشعر طرف منهما بقلّة الحيلة في التعبير عن زاوية رؤيته، وقد يختار الصمت موقفاً مهذَّباً من أن تصل المواجهة، إذا كانت حارّة، إلى حد الخصام.

وقد تترك المواجهة أثراً غير محمود عند الطرفين أو عند أحدهما، وقد يكون هذا الأثر مؤقتاً، وقد يكون طويلاً. وتكون المواجهة -كل أشكال المواجهة الفكرية مهما اتسمت بالحدة- طقساً نبيلاً، حتى لو كان أحد الأطراف حارّ العقل والآخر بارده.

ففيها شجاعة الصراحة والتعبير الواضح. ولهذا ليس من شِيمَة المواجهة الفكرية أن تنجب الأحقاد المُتبادَلة، إلا إذا كان الطرفان نذلين أو أحدهما نذلاً. ولعَمْرِي إن الروح الأرستقراطية الفكرية، غالباً ما تتسم بالتسامح، واعتبار الاختلاف عابراً إذا ما كانت المواجهة الفكرية بين الأصدقاء. فروح الصداقة لا تنال منها المُواجَهات النظرية.

وتختلف المواجهة بهذا المعنى عن الطعنة في الظهر. فالطعنة في الظهر تفيد الغدر والخيانة لآخر تربطك به علاقة معشرية ما، فالطعن في الظهر لا يكون مع عدو، فكل أشكال نفي العدو مشروعة، ولهذا فالطعن في الظهر سلوك منحطّ أخلاقياً، لأنه عدوان غير متوقّع من صديق أو ما شابه ذلك.

ما هي أسباب الطعن في الظهر؟

قد تكون الأسباب أحقاداً دفينة اعتملت في النفس نتيجة الشعور بالدُّونية، وقد تكون حالة انتقامية من موقف ما عجز الشخص عن مواجهته، وقد تكون الطعنة هذه رغبة في الحضور أو شهوة حضور سببها العجز، أو قد تكون ثمرة عقدة الخِصَاء، أو بسبب شعور خَفِيّ بالحسد، أو ثمرة تربية سيئة، أو ثمرة ذهنية جماعة تتسم بالغدر والخيانة.

وتثير الطعنة في الظهر حالة غَضَبيَّة في نفس المطعون؛ لأنها غير متوقَّعة من شخص ظُن بأنه صديق أو زميل أو مُحِبّ. وكانت الطعنة، قبل ظهور "الفيسبوك"، تتم عَبْر النميمة والقِيلِ والقَالِ، وإذا كان الطاعن من أهل القلم فقد يكون النقد الوَقِح وسيلة الطعن.

وبعد ظهور "الفيسبوك" وسواه من وسائل التواصل الاجتماعي صار الطعن في الظهر حالة يتسم بها الجبناء والرعاديد، فهؤلاء المتنكّرون الذين كانوا يتخوفون من المُواجَهة حصلوا على أهمّ وسيلة في الطعن عن بُعد. فإذا كانت المُواجَهة تُظهِر شجاعة التعبير عن الاختلاف، فإن الطعن في الظهر، وبخاصة بأدوات التواصل الاجتماعي، يبرز وَضاعةَ النَّفْسِ وتفاهة الشخصية.

لقد وفَّر "الفيسبوك" للرعاديد مكاناً يختبئون خلفه بعيداً عن المطعون الذي يترفع عن الرد عليهم خوفاً من أن تصيبهم الشهرة من قلمه النبيل. وعندي بأن الذين سرت فيهم أرواح الأرانب في فترة طويلة من العيش الخانع فترة الديكتاتورية هم الذين تحوّلوا إلى هذا النمط من الانحطاط القيمي. والبُرْءُ من هذا الداء يحتاج إلى وقت طويل.

الوقح الجبان يخاف بالأصل، الآخر الموجود أمامه بشحمه ولحمه ويكرهه، هو الآن بعيد عن عيني الآخر الذي يكرهه ويحقد عليه، بعيد عن رد فعله. فليمارس إذاً انتقامه من الآخر المخيف ومن ذاته الخالية من الشجاعة.

كل من يتطاول أو تتطاول على آخر بلغة وقحة إنما يعبران عن الانحطاط الأخلاقي والشعور بلذة النيل من القوي البعيد، من جهة، وعن ذات هي في طبيعتها وقحة وجبانة من جهة ثانية.

يمارس الفيسبوكيون على صفحاتهم حرياتهم التعبيرية دون تقيّة تُذكر، ولما كانت الحرية ممارسة الإرادة دون أن يكون مقصودها إيذاء الآخر، والنقد ليس إيذاءً، فإنه ليس لأحد أن يعطي لنفسه الحق في أن يكون مختاراً يمنح حسن سلوك لنصوص هذا ويمنعه عن آخر، أو أن يتصرف بعقلية معلم يجعل من ثقافته ومعرفته حتى لو كانت محدودة جداً معياراً للحكم فيعطي علامة الصفر أو العلامة التامة لأصحاب القول.

ولعمري إن تجاهل ما لا يروق لك من الأقوال المكتوبة، ينجيك من القيام بدور المختار والمعلم، أما إذا كنت من أهل النقد المعرفي والجمالي وكتبت رأيك فيما يُكتب واختلافك مع مضامين النصوص وشكولها فلا تثريب عليك.

التعليقات (2)

    Bashar Alaswad, M.D.

    ·منذ سنتين 3 أشهر
    Excellent article ; thanks a million

    محمد

    ·منذ سنتين 3 أشهر
    لما يكون الكاتب دكتور فيلسوف معروف بتكون المقاله تستحق ان تقرأ وتفهم
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات