رواية "فاصلة بين نهرين": اختلاط الواقع بالوهم.. والتشوه يمس السوريين

رواية "فاصلة بين نهرين": اختلاط الواقع بالوهم.. والتشوه يمس السوريين
الحرب وآثارها على المجتمع السوري هو موضوع رواية "فاصلة بين نهرين" للكاتبة السورية "غفران طحان" الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، حيث اتخذت "طحان" من مدينة حلب وما مرت بها في سنوات الحرب نقطة انطلاق لتسلط الضوء على حالة الصراع والتجاذبات النفسية التي بات يعيشها المواطن السوري في الداخل. فتُظهر الكاتبة في بداية خط سير حكايتها، اختلاط الواقع بالوهم، والتشوه الذي مس النفس السورية، في حين لم تنسب هذا التشوه للحرب بشكل مباشر، بل تركت للقارئ الوصول إلى النتائج شيئاً فشيئاً.

بحبكة درامية متراصّة البنيان، وبحِرفية "رب المهنة" تدخل "غفران" لتسبر أغوار الشخصيات التي خلقتها، أو ربما التقطتها من واقع الحياة هناك "على ضفة المجزرة"، وعلى الرغم من واقعية الحكاية إلا أن الخيال والحوارات الشاعرية الفنية، كانت حاضرة لتصقل حالة الفصام التي طغت على شخوص الرواية. وبالتأكيد كانت العاطفة المتّقدة منذ الفصل الأول محاولة ناجحة لتوريط القارئ في لمس جوانب نفسية قريبة بعيدة، والتعاطف معها.

"من دون وعي مني، أمسكت بهاتفي المحمول، فتحت صفحتي على الفيس بوك، وكتبت منشوراً:

"جثة في بيتي!"

أغلقت الهاتف وأسرعت إلى الحمام، تقيأت، غسلت وجهي ونظفت الحمام، تشاغلت بعملية التنظيف، غرقت بروائح المعقمات والمعطرات، برز  في خاطري يقين أنني كنت أتوهم، وأنني سأخرج الآن ولن أجد شيئاً أمام باب غرفة نومي، ألح ذاك اليقين عليّ لدرجة هدأت معدتي معه، واستجاب وجهي الشاحب فأزهر على الرغم من زخم الرائحة الواخزة للنظافة في هذا الحمام الضيق."

صبغة تشاركية بين الكاتب والقارئ

الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والتركيز في الشخصيات الثانوية التي لم يتم استحضارها لإيفاء عناصر الحكاية، بل كانت جزءاً رئيساً في سير الأحداث، لا تكتمل القصة من دونها. وقد تكون هذه ميزة إضافية في جعل "فاصلة بين نهرين" عملاً حاملاً لهمٍّ جَمعيّ، وذا صبغة تشاركية بين الكاتب وقارئه. فبمجرد الاطلاع على خطَي السرد اللذين اعتمدتهما الكاتبة، لبطلينِ رئيسيين، سنشعر بمدى انحيازنا الإنساني نحو أبطال الرواية وأحداثها، وكأننا جزءٌ منها، أو هي مرآةٌ تعكس ما يدور في خوالجنا.

ارتكزت الرواية على تقنياتٍ عدّة، كاللعب على عامل الزمن والذي تشعّبت عنه ذكريات وأحداث، تدخل عبر خاصية الفلاش باك والتي لم تقحمها الكاتبة بشكل عشوائي، بل استطاعت دمجها في الحدث الرئيسي والتنقل بها برشاقة، خلقت "غفران" أسئلة تتعلق بقدرتنا على مقاومة حالة التشظي التي تلبّست الإنسان السوري، والتي أفرزتها الحرب. 

"تشهد منطقة العزيزية ازدحاماً كبيراً في هذه الأيام، فبعد أن انخفض صوت الحرب في حلب، بدأت الحياة تعلن عن نفسها مجدداً، وبدأ الناس بارتياد المطاعم والمقاهي كمحاولة تعويض عن كل اللحظات الموجعة التي مروا بها، ربما لأن هذه الأماكن مع المسابح والحدائق هي وسائل الترفيه الوحيدة المتاحة لهم. "

الفكرة التي حاولت الكاتبة أيضاً التركيز عليها، أنّ انتهاء الحرب لا يعني بالضرورة انتهاء الألم، بل من المؤكد أننا سنشهد ارتدادات الحرب، بمعارك داخلية نخوضها في دواخلنا مع ذواتنا المنهكة، المحمّلة بالكثير من الأوجاع والانكسارات والخسارات. 

قد يكون من الصعب على أي كاتب ومهما كان على درجة عالية من المعرفة أن يدخل في هذا العمق النفسي، ويُخرج عقده وأوجاعه إلى السطح، جاعلًا منها عملاً يسهّل على القارئ حتى البسيط ملامسته والتفاعل معه، وهذا يحسب لغفران كونها استطاعت الحفر في هذه البيئة القاسية وجلب ما يصلح لسد رمق القارئ.

حياة افتراضية رديفة للواقع

وليس ببعيد عن يومينا وتمسكنا الدائم بالشاشات وما باتت تعنيه لكل إنسان، اشتغلت "غفران" على استحضار الواقع الافتراضي ورفده بواقع أبطالها الحقيقي، لتشكل عالماً أكثر قرباً من الحقيقة في سرديتها. والتزمت أيضاً بإظهار العلاقات التي يفرضها الواقع الافتراضي بكل حيادية وليس على مقاس بنائها للقصة.  

كما تركت مجالاً لحضور الحب في زمن الحرب، كشاغل وهاجس فرض نفسه بشكل كبير على بطلة الرواية، فأظهرت مدى التزامها بالحب في ظل قسوة الحياة. على عكس البطل الأول الذي كان يعيش حالة عبثية تسيطر عليه أحياناً فيشعر بلا مبالاة تجاه كل ما يحيط به، وبالتزام تجاه الواقع المفروض عليه أحياناً أخرى.

في النهاية نستطيع اعتبار رواية "فاصلة بين نهرين" أحد أهم الأعمال التي طرحت حياة ما بعد الحرب، ومن أكثر الأعمال تماسكاً بخيالاتها ولمستها الواقعية. وعلى الرغم من اتجاه معظم الكتّاب إلى تأريخ المرحلة السابقة والاشتغال عليها، أبت "غفران طحان" إلا أن تكون سبّاقة في رسم نظرة مرحلية استشرافية لما حصل ويحصل وسيحصل، مبتعدة كل البعد عن المواربة، أو لِنَقُلْ بشكل أدق لامست مواطن الألم في الجسد السوري، وكشفت الغشاوة عن الجراح فعرضتها للهواء.

عن الرواية والروائية:

فاصلة بين نهرين: صدرت عن دار موزاييك للدراسات والنشر (2021)، وجاءت الرواية في 160 صفحة من القطع المتوسط

غفران طحان: كاتبة سورية من مواليد مدينة حلب، تحمل ماجستير في اللغة العربية.

- صدر لها أربع قصص هي: (كحلم أبيض 2009 / عالم آخر يخصني 2014 / أزرق رمادي 2020 /  ضوء في الشرفة 2021 /  بالإضافة إلى نصوص نثرية صدرت عام 2015 بعنوان (حلم يغفو على مطر)

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات