سجال القرن: الدولة في سورية إسلامية أم علمانية؟

سجال القرن: الدولة في سورية إسلامية أم علمانية؟
عاشت بلدان المشرق العربي قرناً من اللا معقول اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، ولم تتخلّق الدولة الحديثة إلى الآن في هذه المجتمعات، وفي كل مرحلة من مراحل نهضة الأمة المقهورة تخرج فئة بلَبوس التحرر والحريات والحقوق لتحرف البوصلة بيسر أحياناً وأحياناً بشدّة، بل إن هذه الفئة هي همزة وصل السلطات والأنظمة المجرمة الأقلوية التي تنتهك حرمات الناس وأعراضهم وتجوّعهم وتقتلهم وتملأ السجون بالأحرار، هذه الفئة تسمّي نفسها "العلمانيين"، وفي غالب الأمر ولحفظ ماء الوجه وتيسير إستراتيجيتهم تجدهم يميلون إلى صفّ الثورات على حساب الأنظمة، لكن الحقيقة ليست كذلك، فربيع المشرق كلما طال، عرّاهم وأسقط ورقة التوت عن خبث مشاريعهم وأهدافهم وقيمهم ومبادئهم.

حرب المئة عام على الدستور السوري!

خرج السوريون من عباءة الدولة العثمانية شأنهم شأن سائر المناطق العربية المسلمة آنذاك، حالمين ببناء دولتهم المستقلة، مستندين إلى وعود الحلفاء (التحالف الصليبي الغربي) الذي تتزعّمه فرنسا وإنجلترا، إلا أن ذلك الحلم لم يدُم طويلاً، ليصبح الغرب والحلفاء يحتلّون المشرق من بابه إلى محرابه، ويعيثون خراباً في بنية المجتمعات إثنياً وعرقياً ومذهبياً، ويزرعون حلفاءهم اليهود في عقر الديار الإسلامية والنصرانية المقدسة في فلسطين، في حادثة تشير إلى تناغم عقائدي كبير بين النقيضين (المسيحية واليهودية)، تناغم ستتماهى معه الأقلية النصرانية لعقود على مستوى الشريحة القيادية -على أقل تقدير- كما سائر الأقليات في المنطقة، لتبدأ بعد عقود الاحتلال الطويل فكرة الاستقلال عن فرنسا في سورية ووضع دستور للدولة الوطنية الناشئة حديثاً، هذا الدستور الذي سيخلق جدلاً واسعاً في المجتمع، ويعرّي إستراتيجيات كثير من الوطنيين ورجال السياسة العملاء للقوى الأجنبية، فتكون العلمانية ذلك الطائر الذي يمدّ جناحيه (القومية – الأقلوية) فوق أحلام المجتمعات البسيطة، وليست معركة دستور 1950 إلا استشرافاً لمستقبل الشعب السوري في صراعه مع الفئات الناعمة في ذلك الوقت، والتي فعلت ما فعلت بالسوريين في وقتنا المعاصر، ولكم أن تتخيلوا أن شعب سورية المسلم يساوم على حقه الطبيعي في الدستور ما بين "الإسلام دين الدولة، إلى الإسلام دين رئيس الدولة" فلا كان الإسلام دين الدولة ولا كان دين رئيس الدولة! لتتورم قريحة العلمانيين الأقلويين لعقود طويلة حتى سطوع شمس الثورة عام 2011.

الدولة إسلامية أم علمانية؟

يتنطّع كثير من العلمانيين اليوم وينادون بحياد الدولة، وفصل الدِّين عن الدولة، ويحمّلون الإسلام والمسلمين إثم تاريخهم الأسود لقرن في سورية، ويعتقدون أن في ذلك خلاص سورية والسوريين، أو بالأحرى يدلّسون على سورية والسوريين، لنطرح عدة أسئلة: هل حُكِمت سورية بالإسلام طوال مئة عام؟ وما عدد الأحزاب المسلمة في البرلمانات المتعاقبة؟ وما نتاج الحكومات المسلمة السيّئ لعقود في سورية؟ ومن الرؤساء المسلمون الذين تولّوا الحكم وأساؤوا إلى الدولة ومؤسساتها ودمّروها؟

في الحقيقة، تستحيل الإجابة عن هذه الأسئلة، إلا إذا كان المجيب كتلة منتفخة من الغباء والجهل أو كذاباً! لنستنتج سؤالاً طبيعياً: (هل يمكن فصل شيء عن شيء غير موجود؟.. بالتأكيد، لا).

هؤلاء أنفسهم اليوم في الهيئات الثورية والمعارضة ومراكز التجهيل (الدراسات)  يستنفرون إذا ذكرتَ سنّة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلّم- والقرآن والدِّين والدولة... ويجمعون كل أفّاكي المنطقة في مؤتمراتهم وندواتهم ومنشوراتهم للطعن بمسلَّمات الهوية الوطنية وأعمدة الدستور الطبيعية، ولترويج دعايتهم الباطلة أساساً، والتي لن يقف عندها الشعب السوري بعد اليوم!

حقائق "صادمة" في الدساتير الغربية والشرقية!

لا يوجد دولة في التاريخ تقف على الحياد بين الدولة والديانة، سواء نص دستورها على ذلك أم لم ينص! لأن دين الدولة -المنصوص عليه أو غير المنصوص عليه- ثمرة ظهورها وثباتها وتطور مجتمعها، فهو ركيزة تأسيسية ودافع استقرارها ومحرِّك نهضتها، لِما يفرضه من قوة جامعة في عقدها الاجتماعي. 

 كما إنه يستحيل أن نجد دولة خالصة من ناحية العِرق أو المذهب أو الإثنية، فجميع دول العالم توجد فيها أعراق وأديان ومذاهب مختلفة، وبالتأكيد دين الأغلبية المقرر في الدساتير مباشرة أو غير مباشرة، نصاً أو سلوكاً لا ينتقص من حقوق الأقليات الموجودة على اختلافها، إلا في بعض الدول التي تشكّل فيها الأقليات الدينية أكثرية حاكمة كإيران مثلاً!.. فخلف كل خراب دستوري واجتماعي أقلية مغمورة بخرافاتها وخوفها المتواصل من الأكثرية، كالأقلية العلمانية في بلادنا التي لا تجيد التفرقة بين زيد وعبيد، تعبّر وتنشر وتُفصِح عن هواها وتتبنّى وتدعو وما إلى ذلك من أفعال، لأجل حفنة الدنانير التي تصرفها الحكومات والشعوب الإسلامية عليهم، كحال الجهات العلمانية السورية واللبنانية وغيرها والتي تتلقى رواتبها من خزائن الدول الخليجية، فالمشروع مالي وليس عقائدياً! وانقطاع المال يعني توقف هذه الافتراءات عند حدِّها! ومع  ذلك يجب أن نسرد كلمة الحقيقة حول حضور الديانة في بعض الدساتير الأجنبية على وجه المثال لا الحصر:

1. الدول المسيحية البروتستانتية  (اللوثرية – الإنجيلية): وهنا لا بد من الإشارة إلى أن اللوثرية والإنجيلية تفرعات مذهبية تنبثق من المذهب البروتستانتي وهذه نقطة بالغة الأهمية! وفي هذا سنعرض لدساتير بعض الدول، وعليه نختار بعض الدول الإسكندنافية العريقة ديمقراطياً والتي تتربع على عرش دول العالم قاطبة في كل المقاييس المعاصِرة ووفق أدقّ وأشهر المؤشرات العالمية، ففي آيسلند ينص القسم السادس من الدستور في المادة62: "الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي كنيسة الدولة في آيسلندا، وعليه يجب أن تدعمها الدولة وتحميها". والمادة 63: ”لكل شخص الحق في تكوين جمعيات دينية وممارسة شعائره بما يتماشى مع قناعاته الفردية. ومع ذلك لا يجوز التبشير أو ممارسة أي شيء يضرّ بالأخلاق الحميدة أو بالنظام العام".

وفي الدنمارك ينص القسم الرابع على أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة الرسمية للدولة، وعلى الدولة دعمها، وفي القسم الخامس أن يكون الملك عضواً في الكنيسة الإنجيلية اللوثرية.

أما في السويد فينص دستورها في المادة الرابعة من قانون الخلافة على أن "الملك يجب أن يؤمن دائماً بالعقيدة الإنجيلية الخالصة وأي عضو في الأسرة المالكة لا يؤمن بهذه العقيدة فهو محروم من جميع الحقوق في توارث العرش". وفي المادة 25 ينص على حق الدولة في تقييد حرية الأجانب الدينية.

وأما في النرويج فينص دستورها في المادة الثانية: "يبقى التراث المسيحي والإنساني الأساس الذي نستقي منه قيمنا، ويضمن الدستور الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان". وفي المادة الرابعة: "يعتنق الملك في كل زمان المذهب الإنجيلي-اللوثري".

المادة السادسة عشر: "لكل سكان المملكة الحق بممارسة شعائرهم الدينية بحرية، وتبقى الكنيسة النرويجية، الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، كنيسة النرويج وتحظى بدعم الدولة، ويحدد القانون الأحكام الخاصة بتنظيمها، وتحظى كافة الأديان والجماعات الدينية بنفس الدعم على قدم المساواة". مع التذكير أن المذهب البروتستانتي يتفرع منه أكثر من مذهب غير اللوثري والإنجيلي!

ولا يجب أن أتجاهل ملكة إنكلترا الموقّرة صاحبة لقب "حامية العقيدة" لما تمثّله في مُلكها من رأس للكنيسة الإنجيليكانية، إذ إن مهد المذهب الإنجيليكاني في المملكة المتحدة ومنها يشعّ إلى الأتباع في العالم (وهم تيار مفصول من الروم الكاثوليك).

2. الدول المسيحية الكاثوليكية (روم – روم رسوليون): وهنا الشواهد كثيرة بين ما ينص على ديانة رسمية وما ينص على دعم وتأييد دستوري، فعندنا إيطاليا والبرتغال وإسبانيا والأرجنتين وأندورا والدومينيكان والسلفادور والباراغواي وبولندا والبيرو ومعظم الكانتونات السويسرية وكوستاريكا وبنما وزامبيا ومالطا، والكثير الكثير، وعلى سبيل المفاضلة نجد في المادة الثانية من الدستور المالطي تعليم تعاليم الكنيسة الرومية الرسولية لزاماً دستورياً في جميع المدارس، بينما في دستور بنما في المادة سبعة ومئة ألزمت تدريس المذهب الكاثوليكي في المدارس شرط موافقة الأهل والدينِ أو أولياء أمر،  مع ملاحظة أن هنغاريا وزامبيا تعترفان بالمسيحية من غير مذهب خاص.

3. الدول المسيحية الأرثوذوكسية (أرثوذوكس – رسولي أرثوذوكسي): وهي الكنيسة المشرقية الأرثوذوكسية وهذه الدول تنتشر بكثرة في أوروبا الشرقية وغيرها من مناطق العالم، فعلى سبيل المثال نجد: اليونان مذهبها الرئيس الكنيسة اليونانية الأرثوذوكسية كما في المادة الثالثة، ونجد بلغاريا بنفس السمت اليوناني تقريباً كما في المادة الثالثة عشرة، والكنيسة الأرثوذوكسية الرسولية ديانة رسمية في الدستور الأرميني كما في المادة السابعة عشرة، وبالقرب من هذا تُصنّف دولتا جورجيا وفنلندا، فالأولى رسولية أيضاً.

وإذا ما استحضرنا الديانة البوذية، فلدينا سيريلانكا وتايلاند وكمبوديا وبوتان، والهند البلد العلماني! الذي تفوح في دهاليز سياساته رائحة بوذا. وهكذا دواليك الجميع يعتنق ديانة أثناء ممارسته السياسة ويطبع المؤسسات والسياسة بها، سواء نص دستوره على ذلك أم لم ينص.

لماذا يتستّرون عليها؟ 

إني وبعد أن أوردت سلسلة من الدساتير وطبيعة حضور الدِّين فيها، لك أيها القارئ المتدبِّر أن تسأل نفسك: لم لا يروِّج الأقلويون الطائفيون العلمانيون هذه الدساتير التي تفوح مرجعياتها الدينية نصاً وسلوكاً ومنهجاً وتاريخاً؟ لِمَ يتستّرون في مراكزهم وندواتهم وطروحاتهم على هذا الكمّ الهائل من التفاصيل النصّية، فضلاً عن أنهم لا يجرؤون على تعرية السلوك الغربي بحق الأقليات كالأقلية المسلمة، بل يدعمون سياسة الدول الأجنبية في تعاملها الوحشي مع الأقليات المسلمة في بلادها ويحرّضون على ذلك، بينما تنعم الأقليات في البلاد الإسلامية عبر مئات السنين بفضاء حرّ أفضل بكثير مما تنعم به الأقلية المسلمة في البلدان غير المسلمة، لأترك للقارئ المنصف حرية التفكر واستخلاص العبر والنتائج.

إني لا أعطي الشعب السوري حقاً في دستوره الإسلامي، مساواة بالدساتير الغربية، فهذا طرح غير عادل، فحق الشعب السوري المسلم في دستور يوافق دينه وتوجّهاته غير مقترن على الإطلاق بوجود الدين أو عدم وجوده في الدساتير الأخرى، وبما أن المهجَّرين والمشرَّدين والمقصوفين والمُجوَّعين والمعتقلين من أبناء أمتنا وشعبنا يدفعون بلحمهم الحي ودمائهم وعذاباتهم هذا الشرَّ المستطير، فإني ككل حر يحمل قلماً، نردّ عنهم عدوان المعتدي ونذبّ عن حقوقهم في الحرية والعدالة والكرامة.

التعليقات (6)

    عربي سوري

    ·منذ سنتين شهرين
    حضرة الكاتب انت كارثة عديم الفكرة. بصراحة جاهل وطائفي مقيت. انت عار على العقل البشري. بشار الكر والمقبور الجحش حافظ حولوكم لجهلة عديمي البصيرة و عالة على العقل البشري.

    سامر

    ·منذ سنتين شهرين
    كاتب المقال داعسي بامتياز ويخلط الحابل بالنابل ويقرن بين دساتير دول قابلة للتبديل غير مستمدة من نص مقدس بعكس دين الرحمة التي احكامه كلها منزلة من الله بالاتفاق وعلى هوى رسوله

    سامر

    ·منذ سنتين شهرين
    بينما تنعم الأقليات في البلاد الإسلامية عبر مئات السنين بفضاء حرّ أفضل بكثير مما تنعم به الأقلية المسلمة في البلدان غير المسلمة، اذا لم تستحي قل ما شئت الاخ يقارن بين سكان البلاد الاصلين وبين مهاجرين ويعطيهم منة انه يعاملون بشكل جيد هل انت مختل عقليا؟

    رامي

    ·منذ سنتين شهرين
    لك شو عم تجعدن انت؟ لك ما جابن النا الخراب غير الطائفية ...لو كانت سوريا عن جد علمانية ما كان فاتوا كلاب الولي السفيه من كل العالم يقتلوا فينا مشان العلوي... لك بدنا دولة علمانية عن جد ما بتفرق بين مسيحي مسلم،علوي الخ... بلوة الامة العربية هي شماعة الدين...لك حتى اول عدو للثورات بكون المشايخ اللي بقلق طاعة الحاكم واجب ديني...لازم الدين يكون بعيد عن السياسة مشان نعيش

    Mr. Owl

    ·منذ سنة 10 أشهر
    من المضحك رؤية مقال كهذا على موقع اورينت، و التي يتهمها نصف الثورجيون الإسلاميون بأنها عدوة للدين فبالتالي عدوة الثورة! ربما صدقوا عندما قالوا أنها تلحق المال و لا مبدأ لديها.. فهي مستعدة لتبني اي فكرة مقابل أن تركب الموجة و تحصد المشاهدات، ففي بداية الثورة كانت تدعي العلمانية و اليوم نراها إسلامية تارة و علمانية تارة آخرى، كله في سبيل التقرب للرأي العام الثورجي.. يؤسفني كمعارض لنظام الأسد رؤية الثوار إلصاقهم الدين بثورة أسموها زورا في يوم من الأيام ب"ثورة شعب لكل السوريين"، ألصقوها بشيء مطاطي غير موضوعي، أتباعه منذ مئات السنين يتنحارون في تفسيرات شخصية لا يتقبلون نقدها او قدحها رغم عدم ثبوتيتها، فالكتب المقدسة نفسها لم تقدم تعليلات موضوعية واضحة أدت لهذه النزاعات التي من الطييعي تطورها لشلالات من الدماء.
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات