موت السياسة: مأزق روسيا الذي لا تريد الخروج منه!

موت السياسة: مأزق روسيا الذي لا تريد الخروج منه!
تكوّنت بعد الحرب العالمية الثانية حالة العالم على نحو قرر المنتصرون الأقوياء تجاوز الصراع المسلح بينهم لاقتسام العالم، وحصر الصراعات بين المنظومة الاشتراكية بقيادة السوفيت، والمنظومة الديمقراطية الرأسمالية بقيادة أمريكا بصراعات أيديولوجية ثقافية واقتصادية، مع التدخل في صراعات ما كان يسمى بالعالم الثالث، دون أن يقود هذا التدخل إلى مواجهة مباشرة. وعندما وصل الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي حول كوبا مرحلة الصدام تدخلت السياسة وحلت المشكلة.

كانت السياسة الدولية آنذاك تقوم على الاعتراف المتبادل بين القوتين الأعظم وحلفائهما بحدود المصالح. وفي عام 1975 صدرت وثيقة هلسنكي للأمن والتعاون الأوربي، التي انطلقت من احترام سيادة الدول وحلّ الخلافات بالطرق السلمية وعدم استخدام القوة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير.

وكان أهم بند من بنود وثيقة هلسنكي البند الذي يقول: ضرورة الربط بين الأمن السياسي والعسكري، وبين أمن كل دولة من دول المؤتمر وأمن القارة الأوروبية، والربط بين أمن القارة الأوروبية والأمن العالمي وأمن منطقة البحر المتوسط، وأكدت أهمية المفاوضات وسيلة لتسوية الخلافات بين الدول وتبادل وجهات النظر. فضلاً عن بنود أخرى تصب في تعزيز ما سبق.

جوهر مؤتمر أهداف وثيقة هلسنكي هو مبدأ التعايش السلمي بين القوى الأعظم. وتأسيس حل الخلافات المعيقة لهذا التعايش بالطرق السلمية.

مع انفراط الدولة السوفيتية، وتفكك حلف وارسو، واستقلال دول أوروبا الشرقية عن المركز الذي كان، وتحولها إلى دول رأسمالية وإقامة علاقات مع أمريكا وضم الكثير منها إلى حلف الناتو.

ودخلنا في مرحلة القطب الواحد: أمريكا. بدخول العالم مرحلة القطب الواحد ماتت السياسة، وانفلت الأمريكي نحو ترتيب أوضاع العالم دون اكتراث بأية قوة تحمله على السلوك السياسي. كان احتلال العراق وتدميره نموذجاً فذّاً لموت السياسية، وفي الوقت نفسه فإن روسيا المنهارة تحولت إلى دولة خراب ومافيات وفقر وفوضى، ولم يعد لها شأن في تحديد صورة العالم. 

 ورثت روسيا المنهارة اقتصادياً قوة الاتحاد السوفيتي العسكرية، واحتفظت بعقلها الإمبراطوري العاجز عن التعبير عن نفسه بسبب الضعف العام لروسيا الجديدة.

منذ أن اعتلى فلاديمير بوتين عرش روسيا عام 2000 رئيساً لها، مروراً بتسلمه منصب رئيس الوزراء، ثم عودته رئيساً وهو يعمل على استعادة قوة روسيا الإمبراطورية ولكن عبر القوة العسكرية وحدها.

فقد وفرت له أسعار النفط المرتفعة وأسعار الغاز ريْعاً يساعده على تطوير مؤسسته العسكرية، وتحسين ملحوظ في مستوى خط الفقر، إذ إن التقارير الروسية، نفسها، تشير إلى أن ستين بالمئة من الروس في خط الفقر، وأن الراتب التقاعدي في روسيا هو في حدود 200 دولار، في حين أن متوسط راتب الفرد من الطبقة الوسطى لا يتجاوز 500 دولار وهؤلاء لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من السكان.

بوتين رغم محاولاته الإصلاحية، لم يستطع أن ينقل روسيا إلى دولة قوية اقتصادياً وثقافياً، فليس لديها القدرة على أن تكون مواكبة لروح العصر، ولا هي قادرة على أن تكون دولة إغراء عالمي، ولا هي بالمجتمع الذي يخلق معايير حضارية.

كل ما تملكه روسيا اليوم هو قوة عسكرية وعقل إمبراطوري. توجه العقل الإمبراطوري إلى إخضاع بعض شعوب روسيا الراغبة في الاستقلال، فقد دمر بوتين مدينة غروزني وقتل مئة ألف شيشاني، وأعلن حرباً على جورجيا بحجة حماية أوستيا وأبخازيا، واحتل شبه جزيرة القرم، ودعم انفصاليي أوكرانيا، وأخيراً أرسل قواته إلى سوريا دفاعاً عن النظام الحاكم وفي حرب مفتوحة على المعارضة، وها هو يخوض حربه ضد أوكرانيا.

هذه القوة الإمبراطورية المنفلتة من عقالها ليست سوى تعبير عن مأزق تعيشه روسيا ولا تستطيع الخروج منه، ولهذا فإن أسهل طريقة لتمتين وضعها الداخلي، ولو مؤقتاً، لا تكون إلا بنقل مأزقها الاقتصادي.

لكن أمريكا لم تعد في وارد الاعتراف بروسيا كدولة عالمية ذات حضور من شأنه أن يعيد السياسة التي كانت قبل انهيار الاتحاد السوفيتي  إلى العالم.

فالقوة المنفلتة من عقالها الآن التي ماتت فيها روح السياسة قد جعلت التهور العسكري لغة تحقيق المصالح. 

وشتان ما بين احتلال العراق الذي لم يحرك ساكناً في العلاقات الدولية، لأن هذا الاحتلال قد تم من قبل دولة القطب الواحد، ومحاولة بوتين احتلال أوكرايينا، روسيا التي تواجه أمريكا والغرب مجتمعاً، بكل ما يمتلك من قوة تحكم في اقتصاد العالم وتحديد مصيرة بالقوة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات