أحمد برقاوي في (سوريا في لاءات الحرية): صلابة الموقف الذي يصنع نقاء الرؤية ونزاهة المعايير

أحمد برقاوي في (سوريا في لاءات الحرية): صلابة الموقف الذي يصنع نقاء الرؤية ونزاهة المعايير

يمثل كتاب (سورية في لاءات الحرية) للدكتور أحمد برقاوي، الذي افتتحت به مؤسسة أورينت، سلسلة (كتاب أورينت) الشهري.. جهداً نوعياً لافتاُ في قراءة الواقع السوري بوجه خاص، ووضع الثورة السورية في سياق ثورات الربيع العربي بشكل عام. ورغم أن الكتاب هو عبارة عن مقالات سبق للكاتب أن نشر معظمها في زاويته الأسبوعية صبيحة كل أحد في (أورينت نت)، إلا أن كاتبها، عمل على إعادة ترتيبها وفق بناء هندسي وصلات موضوعية محكمة، أنتجت روحاً مختلفة للكتاب بعيداً عن حالة المقالات المتفرقة ختمها ببحث ضافٍ عن المصير السوري. فتحولت الجرعات المكثفة المتباعدة، إلى نهر من الأفكار التي تتدفق في مجرى واحد.. هو المجرى السوري.. مهما تفرعت عنه تفريعات صغيرة أو كبيرة تقودنا إلى موضوعات أخرى، لا بد من العودة إلى المجرى السوري.. مجرى الدم والألم.. مجرى الانفجار والثورة.. مجرى التوحش والبربرية والضلالات والانتهاكات والزمن الذي يقتلع كل رواسب الماضي، دون أن ينجح – على الأقل في المدى المنظور – في التأسيس لمفاهيم جديدة قادرة على أن تبلور شكل الحياة المنشودة التي يستحقها شعب قدم كل هذه التضحيات من أجل نيل حريته وكرامته.

 

الربيع العربي: الطغيان في مرآة ذاته!

يبدأ الكتاب بمدخل حول ثورات الربيع العربي في مقالتي (المستنقع والبركان) و(تشابه الجماعات التسلطية واختلافها).. ومن خلال استخدام أسلوب المقارنة بين المتشابه والمختلف في واقع الحال الذي أنجب ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، يقودنا الكاتب إلى رؤية الواقع العربي برُمته. ورغم أن أسلوب المقارنات هو أسهل طرق إيصال المعرفة للآخرين. لكن المقارنة بلا ثقافة وإلمام واسعين، وبلا قدرة على النفاذ إلى جوهر الحالة وعدم الانشغال بالهامشي والسطحي، لن تقود إلا إلى خواء ينتج تصورات خاطئة ومضللة وبعيدة عن الواقع تماماً. لكن ما يقدمه المؤلف هنا، يبدو مدهشاً. قدرة خلاقة على رؤية الحالة الاستبدادية أو التسلطية من داخلها وتحليل مكوناتها المحلية، قبل وضعها في سياقها العربي المقارن. ولعل هذه القدرة لا تستند فقط إلى قدرة المؤلف ومهاراته في التفكيك والتحليل وحسب، بل إلى معرفته العميقة بالواقع المحلي في كل هذه البلدان التي يتحدث عنها. وهي بلا شك لمعرفة أكبر من حالة تجميع معلومات، إنها حالة معايشة خبرها الكاتب في سوريا كما في اليمن حين كان أستاذاً جامعياً في جامعة عدن لبعض الوقت.. كما في بلدان أخرى قرأ نتاج مفكريها وتحاور معهم. وحتى ندرك إلى أي حد وُفّق في تلك المعايشة التي تصوغ هذه الرؤية التي تضع المشهد السياسي على مشرحة علم الاجتماع، يمكن أن نقرأ مثلاً:

"...فالقذافي قُتل ومبارك سُجن وبن علي هرب وعلي عبد الله صالح بقي. ولهذا كان البركان اليمني ضعيفاً قليل النفثات أبقى على قوى النظام القديم عبر اتفاقية واعتراف متبادل.أما المستنقع السوري فهو المستنقع الأوسع والأعمق من بين هذه المستنقعات. ولهذا كان البركان أشد. فالمستنقع السوري رسوبي راكم قوته عبر أربعين عاماً في تأهب دائم لمواجهة أي نوع من أنواع البراكين عبر عصبية طائفية ملطفة بأيديولوجيا فقدت تأثيرها المجتمعي والحزبي هي الأيديولوجيا القومية، ووعي فلاحي قديم بالسلطة. كان حجم القمع لدى المستنقع هذا لا مثيل له في العالم أجمع، فلقد سجن الإخواني والتحريري والبعثي والناصري والشيوعي (من كل أنواع الشيوعي) والمستقل".

النقطة الأساسية التي تقود حالة المقارنة هذه وتعطيها قوتها وزخمها، الإدراك العميق أيضا لعلتها الأساس، ولمرضها الجوهري: "الركود التاريخي" الذي يعرّفه البرقاوي بالقول: "القضاء على أي قوى اجتماعية – سياسية محرِّكة للتاريخ، وإذ يتحول المجتمع إلى خلوٍ من هذه القوى مع وجود سلطة مناهضة للتاريخ وسيرورته، فإن المجتمع يتحول إلى مستنقع تحرسه ثلة من الخنازير البرية".

والمعادلة التي يفكك عناصرها الكاتب بوضوح وعمق: القضاء على القوى الاجتماعية والسياسية يصنع ركوداً تاريخياً/ الركود ينتج المستنقع/ اطمئنان السلطة لهذا الاستنقاع يزيد من تغولها واستخفافها بالبشر/ الاستخفاف يفجرالبراكين كي تجفف المستنقعات وتعيد حركة التاريخ.

هكذا تبدو قراءة الواقع قائمة على فلسفة التاريخ التي هي في جانب من جوانبها فهم حقيقي لقوانين أحداث التاريخ الحقيقية، وتحليل للظرف الذي أنتج اختلال تلك القوانين وأسهم في صنع الانفجارات التي تهدف إلى استعادتها، أو صنع قوانين جديدة، لحياة جديدة، بعد أن توّدع رواسب الماضي وتطيح بقيود التسلط الأعمى، وتعدل موازين القوى والإرادات.

 

سورية: الهشيم المُهيّأ للاشتعال!

إن إدراك المفكر للحظة التاريخية التي يعاصرها، والقدرة على تقييمها وفهم سياقها وتحليل مساراتها قوانينها، هي أهم ما يميز كتابات الدكتور برقاوي، ويعطيها أهمية استثنائية نابعة من إيمانه العميق بقيم الحرية بعيداً عن الارتهان لأي مصالح ذاتية أو مقايضات غير موضوعية..  وهو ما يتجلى على نحو أشد وأوضح حين يذهب إلى الحالة السورية التي يخصص لها غالبية الكتاب.

يقرأ الكاتب الحالة السورية تاريخياً كي يصل إلى اللحظة الراهنة ويستشرف المستقبل. يغوص عميقاً في تاريخ تقسيم سورية وبلاد الشام، وفي طبيعة الصراع الذي أنجز هذا التقسيم، فيضع سورية كجغرافيا سياسية في إطار صراع النفوذ الذي يقسم الجغرافيا ويحول مسارات التاريخ:

" قام الصراع على المنطقة بين قوى عالمية على احتكار النفوذ من جهة وصراع  قوى داخلية من أجل ما يجب أن تكون عليه المنطقة، من جهة ثانية. في الصراع على المنطقة ضاعت فلسطين والأحواز وماردين وإسكندرون وتأكد التقسيم الذي أنجزه الاستعماران الفرنسي والبريطاني وفي "الصراع من أجل" ثار الشعب من أجل الاستقلال والحرية وما زال هذا الصراع قائماً".

يتأمل الكاتب أيضاً في مسار الأحداث والوقائع والتقلبات والمعاهدات والمؤامرات ليطرح سؤاله الفلسفي الأثير عن: ماهية سورية كيف تشكلت؟ وكيف استوت وكيف تشوهت وكيف وصلت إلى مرحلة الانفجار؟ وكيف ساهمت أنماط السلوك السلطوي في دفع الناس إلى هذا الانفجار!

سؤال الماهية جزء أساسي من منهج البرقاوي الفلسفي، إنه السؤال الذي يترك للآخر أن يفصح عن ذاته، كي نفهم معنى وجوده، ومشكلات هذا الوجود. سؤال الماهية هو أيضاً محاولة للغوص عميقاً في فهم كوامن الأشياء التي تنتج الصراعات وتحرك القوى.. لكن هذه المحاولة لدى مؤلف هذا الكتاب، لا تستند إلى رؤية فلسفية شديدة الوضوح وحسب، ولا إلى تمكن الأدوات وتطويعها من أجل تشريح الحالة بدقة.. بل هي أيضاً تمتاز بتلك القدرة اللغوية الفذة، التي تجعل ما يكتبه هو نوع من الأدب الفلسفي.. المجنّح بخيال مبدع، القادر على التكثيف والاختزال من أجل دقة تصوير الأفكار، وتبسيط الرؤية الفلسفية لتكون في متناول إدراك كل ذي لُبّ.

وفي هذا السياق يكتب البرقاوي عن: "سوريا.. مجتمع الشرارات" فيحول الفيسفساء السورية اجتماعياً وسياسياً وطائفياً إلى مجموعة من الصور الأدبية المذهلة. الصور التي تصور الحالة بلا تقديم أي تنازلات عقلية أو جنوح إنشائي فائض:

" سوريا مجتمع الشرارات. هو مجتمع الهشيم بكل أنواعه، الهشيم الذي تراكم ـ عبر عقود من الزمان والعماء السلطوي ـ الجاهل بالتاريخ ـ كان ينظر إلى تراكم الهشيم على أنه نوع من الاستقرار والاستسلام المطلق من قبل البشر لواقعهم. لم يسمح العماء السلطوي للسلطة الحاكمة أن ترى الاستنقاع الحاصل، لأنها ما كان لها أن تميز بسبب عمائها التاريخي ـ بين الاستنقاع والاستقرار. ففي الوقت الذي كان فيه الجيل الذي هزمته السلطة ينعى آماله خائباً متشائماً فاقداً أمل التغيير، كانت أجيال جديدة تنمو في قلب الهشيم الذي راكمته السلطة. لقد تكوّنَ الهشيم من كرامة مجروحة، وذل مؤلم، وعبودية مشعور بها، وبطن مسروق ورفض صامت. وثلة من المتمجدين الذي تحدث عنهم الكواكبي في طبائع الاستبداد وعرفهم بأنهم «من يستعيرون قبساً من نار السلطان ليكووا بها البلاد والعباد»، وطائفية ذات وهم بانتصارها على الأكثرية". ص (27).

هل يحتاج هذا التصوير التحليلي البارع لأي شرح؟ هل يجهل أي سوري – مؤيداً كان أم معارضاً – ما هو الهشيم الذي نمت في قلبه أجيال من السوريين في مملكة الصمت والقهر والاستقواء الطائفي والفجور الشعاراتي التي تجعل من العته الذي تفرزه ثقافة النفاق والاستزلام والكذب والانبطاح: ذكاءً وفطنة وسرعة بديهة؟! هل يجهل أي سوري النار التي كانت تشتعل في صدره تجاه سوري آخر قادر على إذلاله وقهره وتجويعه وسلبه كرامته وهو مطالب بأن يظهر له الولاء؟!

 

ثقافة الاستبداد السوري وأدواته!

ليست القوة القاهرة التي  تستخدمها منظومة التسلط والاستبداد سوى أداة تمكين من السلطة.. لكن خلف هذه الأداة، يحلّل البرقاوي منظومة المفاهيم التي تجعل من قوة الاستبداد قادرة على إنتاج ثقافتها ومفاهيمها العامة التي تتقاطع مع جوهر الاستبداد في كل زمان ومكان، وأن تنتج في الوقت نفسه أو "تبتكر" ثقافتها ومفاهيمها المحلية الخاصة.. وهو ما يتميز به نظام الاستبداد السوري الذي جمع في بنيته المحلية من الرذائل التي لا تنفع معها أية تسوية، لدرجة دفعت الكاتب للتساؤل:

"أي تسوية ممكنة بين بنية متخلفة دمرت ثلاثة أرباع البلاد وشردت الملايين واستدعت ميليشيات الوسخ التاريخي لاحتلال الشام، وشعب يتوق للحرية والكرامة الإنسانية ويسعى نحو قطيعة مع نصف قرن من الظلام والانحطاط؟" ص (52).

وهو لهذا يتوقف عند مفاهيم لها طبيعتها الخاصة في الحالة السورية مثل: العنف والعنف المقدس، والقهر، وعند ما يسميه "سلطة الوهم" رابطاً بينها وبين اللامعقول، وهو يعرّف الوهم بالقول:

"نمط من الوجود قادر على أن يجعل الموجود فاعلاً حتى حدود اللامعقول. والوهم بوصفه وجوداً لا معقولاً لا يقود إلا إلى سلوك اللامعقول". ص (37)

في الحالة السورية أنتج الوهم فكرة الأبد وفكرة كسر رأس التاريخ، وفي لغة الإشراق الأدبي البديع التي يكتب بها البرقاوي يتحول الوهم من قلعة حصينة إلى مقبرة بشرية:

" إن الوهم وقد تحصن في قلعة بشرية تحول إلى مقبرة بشرية حيث يحاول العدم الذي امتلأ بكل أسباب الوجود الزائف أن ينتصر على منطق الحياة والأشياء في وجودها الأصيل".

وحين ينطلق بعد ذلك ليكتب عن المستقبل السوري.. المستقبل الذي تصنعه إرادة تتحدى إرادة من ظن أنه "قادر على كسر رأس التاريخ" لا يجد الكاتب بداً من إعادة اختزال الروح السورية من أجل أن يقول إن هذه الروح التي مُزّقت ودُمّرت، لا يمكن أن ينقذها من مأزقها التاريخي لا الديكتاتورية العسكرية، ولا الديكتاتورية الأصولية. أما سورية التي يحاول اختزالها المؤلف فيصوّرها على النحو التالي:

"سوريا مدن كبيرة ومدن حرفة وصناعة وتجارة، وقرى زراعية منتجة، سوريا وطن متعدد الأديان والطوائف والإثنيات، سوريا بلد الفئات الوسطى الواسعة، سوريا بلد ثقافة الإبداع الأدبي والفكري والموسيقي. سوريا قامت بثورة من أجل حريتها وليس من أجل دينها. بعد تجربة الاستبداد الطويلة لا يمكنها أبداً أن تتحمل استبداداً من نوع آخر". ص (45).

 

النزاهة في تطبيق المعايير!

ثمّة الكثير مما يقال عن كتاب (سورية في لاءات الحرية) وعن منهج الكتابة والتحليل القادر على الوصول إلى القارئ، وعن هذا الإحساس العميق بحركة التاريخ وفرادة اللحظة التاريخية، ومأساة البشر الحالمين بالتغيير والتوّاقين للحرية لدى الكاتب.. وعن حجم المعرفة التي يقدّمها في مزيج فريد وخلّاق يجمع بين الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وقراءة التاريخ من منظور فلسفي، والانغماس في التقاط الظواهر الاجتماعية وتحليلها، وتحليل نفسية العبد وكيف يصنع العبيد طغاتهم والطغاة عبيدهم في عدد من المقالات التي تشكّل باباً من أبواب الكتاب.. 

وثمة الكثير مما يقال أيضاً عن اللغة الأدبية الجزلة، القادرة على الاختزال والتصوير والتأثير، ولكن يبقى هذا كله "مهارات" مفكر عجن فكره على الدوام بماء الحياة اليومية وشمسها وهوائها.. أما ما فوق ذلك فهو ما ارتبط بهذا الموقف المبدئي الصلب الذي يتخذه البرقاوي من كل أشكال التسلط والاستبداد التي تريد أن تقيّد السوريين أو تصادر حاضرهم وتغتال مستقبلهم مهما كانت أيدولوجيتها وانتماؤها.

صحيح أن إرث البرقاوي الماركسي قبل أن ينجز خصوصية الفكرية والفلسفية، يفترض منه ( في نظر أصحاب التصنيفات الجاهزة) دفاعاً عما يقترب أو يتقاطع مع هذا الفكر.. وهذا ربما يطلّ برأسه أحياناً في مقاربة حركات الإسلام السياسي وتمييزه بين الإسلامي والإسلاموي، وإصراره أن الدين هو الدين الشعبي والعلاقات المعشرية وحبّ الخير، وليس الدين الذي يريد أن يقود الدولة ويضع معايير الحكم.. إلا أن هذا لا يصل به إلى مستوى الانحياز أو ازدواجية الموقف، فهو مُعادٍ لكل فكر شمولي مهما كان انتماؤه.. وهو على قدر كبير من النزاهة في تطبيق معاييره الفكرية على الجميع: أقليات كانوا هنا.. أم أكثرية هناك. قوميون هنا.. أم إسلاميون هناك.  وهو موقف يقود قارئه إليه بصرامة، مسلحاً بالحجج والبراهين العقلية، والإحساس والإيمان العاطفي الممتزج بحب البشر والدفاع النبيل عن كرامتهم وتقديس الحرية لهم بلا أي تمييز أو استثناءات.


لقراءة كتاب (سورية في لاءات الحرية) كاملاً اضغط هنا

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات