لم تكن الطائفية أو العنصرية بأشكالها دافعاً أو هدفاً أو أسلوباً من أساليب الثورة السورية، بل وسيلة استخدمها النظام للقضاء عليها، ومهما طالت المدّة، فأيّ نظام عربي معني أصلاً بمسائل التنمية والاستقرار؟، فقط استقراره هو، والشيء الوحيد الذي تغيّر على بشّار أسد أنّه لم يعد يستطيع الظهور غير المحضّر مُسبقاً أو السفر علناً، ما عدا ذلك فلا يزال رئيساً للجمهورية العربية السورية يضع يده على ما تبقّى من الأموال ورؤوس الأموال التي نهبها وعائلته طوال عقود وهي كثيرة ما زالت، ويسيطر على أدمغة مليون شبّيح سوري على الأقلّ داخل سوريا وخارجها، وهذا يكفيه ليفعل المزيد -ما أمكنه- من القتل والتشريد والتدمير وتمزيق النسيج المجتمعي السوري تماماً، المجتمع الذي لم يكن في أفضل حالاته قبل الثورة، لكن بسبب النظام نفسه.
ما معنى ثورة؟ ولماذا؟
الذي حدث يعرفه الجميع، جميع من يفهمون ما معنى ثورة ولماذا؟، والمشكلة أنّ معظم السوريين على اختلاف انتماءاتهم بأنواعها جمعتهم منذ عشرات السنوات محنة وطنية عميقة ولم تكن بالتأكيد محنة ضائقة اقتصادية إلّا في جزء ما، لكنّ انتهاك الحقوق المستمرّ وانعدام حرّيات الرأي والتعبير والفساد السياسي والأمني والاستئثار بالسلطة والنظام القضائي المعطّل، كانت هي الأسباب التي أشعلت الثورة أخيراً، وهذا بدهيّ، كما كانت بالطبع أسباب الضائقة الاقتصادية والفقر المدقع الذي سقط فيه أكثر من نصف السوريين خلال سنوات قليلة.
أغلب السوريين من أهل الثورة ومِن غيرهم أيضاً يعرفون هذا الكلام، وأنّ الثورة ستكون ردّ فعل طبيعي لأيّ إنسان طبيعي عند انتهاك حقوقه وعزله وإفقاره بشكل غير طبيعي حين تحين الفرصة، لكنّ النظام بعنفه وبطشه وفساده من جهة، ومن جهة أخرى بما أمكنه واحتاج إليه لتوزيع امتيازات وكسب ولاءات، حوّل أكثر السوريين إلى شعب ليس طبيعياً، مع افتراض أنّ كلمة شعب يصحّ أن تطلق على الناس الطبيعيين وغير الطبيعيين معاً، وليس لأنّهم مجموعات متعدّدة القوميات والأديان والثقافات، وهم كذلك، ومن الطبيعي ألّا يشكّل هذا مشكلة في الحياة الاجتماعية والسياسية بل قيمة مُضافة إليها، لكن هيهات أن يُسمَح للسوريين بذلك.
إلى أين وصلنا؟!
المشكلة الآن هي أين وصلنا؟، هل ما زال السوريون الطبيعيون يؤمنون بالثورة أو يرغبون بها ويريدون لها أن تتأجّج من جديد، أو فليكن السؤال هكذا: هل أنت نادم أيّها السوري الطبيعي على الثورة؟
في 17 كانون الأوّل 2020 نشرت صحيفة "الغارديان" نتائج استطلاع رأي شارك فيه أكثر من 5000 مواطن من مختلف الدول العربية، وذلك بمناسبة مرور نحو عشرة سنوات على اندلاع ثورات الربيع العربي، قال ما لا يقلّ عن 50% من المشاركين من تونس ومصر وليبيا والسودان وسوريا إنّ أحوالهم أصبحت أسوأ بكثير ممّا كانت عليه قبل الثورات، وفي سوريا واليمن وليبيا تأسّف أكثر من 70% على اندلاعها، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 40% في مصر والجزائر والعراق، (طبعاً بسبب أحوال الحرب الدموية التي اندلعت في البلدان الثلاثة الأولى)، لكنّ المفاجأة كانت في أنّ أقلّ من 5% من المشاركين في سوريا واليمن والعراق أجابوا بنعم على سؤال: هل تتوقّعون مستقبلاً أفضل لأولادكم؟
في حال كانت معايير هذا الاستطلاع صحيحةً، فإنّ مثل هذا الجواب يعني أنّ معظم الناس الذين اندلعت في بلدانهم ثورات، لم يدركوا أبداً وغالباً منذ البداية أنّ الثورات ليست مجموعة من الاحتجاجات أو الانتفاضات أو أعمال العنف أو سلسلة من الإجراءات السياسية أو الشعبية الواضحة والمحدّدة بمدد وفترات أو بنتائج نهائية وأكيدة، وهذا غير عادل لأنّ الحكم على الثورة لا يكون إلا من خلال تحقيق أهدافها فعلاً، ولا يمكن في عشر سنوات الوصول في عوالمنا العربية وخاصّةً في سوريا التي ذاقت كلّ أشكال السقوط الإنساني العالمي والتكالب على ثورتها والتدخّل فيها والتآمر عليها منذ اللحظة الأولى، والمشكلة أنّ الأكثرية ينظرون إلى الثورة على أنّها مسألة إسقاط نظام لا أكثر، وفي الواقع لا، فأهداف الثورة هي الحرّية والعدالة والكرامة، وتحقيق هذه الأهداف يحتاج إلى بناء دولة حقوق حقيقية خلال وقت طويل ومراحل كثيرة وقد لا تكون متواصلة.
استنتاجات مبكرة وأحكام سابقة لأوانها؟
لِـ "مارك لينش"، وهو باحث في شؤون الشرق الأوسط بجامعة جورج واشنطن الأمريكية مقالة بعنوان "الانتفاضات العربية لم تنتهِ أبداً"، يقول فيها إنّ التصريحات والآراء التي اعتبر فيها الناس الثورات التي حدثت مجرّد إخفاقات تامّة لأنّها أدّت إلى استبدال ديكتاتور بآخر، كما حدث في مصر مثلاً وإلى بقاء بشّار أسد والحروب في سوريا وليبيا واليمن، وحتّى العراق لم يتعافَ إلى الآن بعد سقوط صدّام حسين..
يعتبر الكاتب كلّ هذه التصريحات والآراء ليست سوى استنتاجات مبكرة وأحكام سابقة لأوانها، فلقد اعتبر الكثير من المحلّلين والسياسيين والكتّاب قبل 2011 أنّ استقرار الأنظمة العربية أمر مفروغ منه ومسألة لا تقبل الشكّ!.
لقد أعطت الثورات العربية دروساً خالصةً في معنى الحرّية، ومهما كان فإنّ إسقاط أربعة رؤساء ديكتاتوريين في تونس ومصر وليبيا واليمن يعني إنجازات تاريخية حقيقية ما تصوّر أحد تحقيق واحد منها، ولقد كانت المطالبة بالديمقراطية مجرّد واحدة من المطالبات التي أرادها المتظاهرون، ولذلك لا يعني عودة طغاة جدد أو استمرار طغاة قدامى حتّى الآن فشلاً للثورات، فالثورات لم تنتهِ بعد.
في استطلاع آخر أجراه موقع "رصيف 22" على الإنترنيت وجّه فيه السؤال: هل كان من الأفضل لو لم يحدث الربيع العربي أبداً؟، كان أحد الأجوبة الواقعية المركّزة: (صحيح أنّنا لم نحقّق الحرّية بعد، لكن يمكننا على الأقلّ أن نحلم بها أو نتخيّلها).
مرّت أكثر من عشر سنوات منذ اندلاع الثورة السورية وغيرها من الثورات العربية، وصحيح أنّ التحوّل الديمقراطي لم يتحقّق ولقد تكبّدت هذي الشعوب الكثير من التضحيات، ولحق بها وخاصّة السوريين ما لا يمكن وصفه من آلام وعذابات، لكنّ الثورات لا تنشأ في يوم واحد كي تنتهي بين نهار وليلة.
التعليقات (5)