رواية (قبل الميلاد) لمحمود الوهب: المثقف اليساري وإرهاصات الثورة

رواية (قبل الميلاد) لمحمود الوهب: المثقف اليساري وإرهاصات الثورة

بحزن شديد يستحضر (همام عاصم) الصخرة بطلُ الروايةِ النهضويَّ صاحبَ طبائع الاستبداد، يصنع له تمثالاً من وهم أو حلم، يقف على يده الممدودة، يضطرب، يمطُّ رقبته، يبحلق، يستفهم ويتساءل عن مذاق المشاركين وألوانهم.. فتتضح له تفاصيل الحفل تدريجيًّا، يكتشف المغني والملحن وضارب الطبل، ويرنو إلى الدبِّيكة، فيتعرفهم شبيحًا شبيحًا؛ يلمح وسطهم الوزراء والأمناء العامين والسياسيين والإداريين.. يحفُّ بهم المهربون والمجرمون والنصَّابون وشهود الزور وبعض الصعاليك.. فينسحب مع ثلَّة من الأنقياء، ليتابعوا رحلة انتظار الميلاد الجديد. 

هكذا يختتم الروائيُّ مغامرات بطله وانكساراته المتتالية التي توجت بإخفاق زيارته السيدَ الجليلَ، وعودته مدحورًا مهزومًا إلى ساحة (سعد الله الجابري)، ليشهد واحدة من حفلات التطبيل والتزمير المعتادة في سوريا الأسد. وتأتي جملةٌ في ذيل الصفحة الأخيرة في الرواية ((تمَّت في أواخر 2010)) لتقول لنا: كُتبت الرواية قبل الثورة، لكنَّها لم تنشر حتى عام 2016. لذا لا تؤاخذوني لن أحدِّثكم عن الكيماوي والبراميل المتفجرة وتعفيش البرادات، وبوابير الغاز الصغيرة من نوع بريموس التي تساعد على ضبط حرارة المتة.

 

البطل المنقذ.. مثقف يساري

يحاول محمود الوهب – وهو قاصٌّ وصحفيٌّ - أنْ ينزع النقاب عن إرهاصات الثورة السوريَّة ومقدماتها وأسبابها، فيغريه الفنُّ الروائيُّ بما يحتمله من الإطناب والتفصيل في الوصف والسرد الذي يستنفد ما في جعبة أيِّ مثقف.. ويشرع في الكتابة عن البطل المنقذ، المثقف اليساري الذي يعتقد أنَّه قادر بسموه الأخلاقيَّ ونبله أنْ يصلح ما أفسده السياسيون عبر خمسين سنة من الظلم والاستعباد.

ويلعب الهدف الكبير دوره في توهان البوصلة فإذا بالكاتب ينكفئ عن كتابة رواية الموضوع Sujet، بعد أن وجد نفسه أسيرًا في الشخصيَّة والمكان، ويتحول – دون أن يكون هناك حكاية مركزيَّة - إلى سرد مذكرات يومين أو أكثر بقليل من حياة البطل المنخرط في الواقع بحذافيره اليوميَّة، وإلى التركيز على المكان (حلب) الذي يحوم فيه البطل محور الرواية وملتقى السرد، وتلتف حوله شخصيَّات، لا تعدو أن تكون متمِّمة.

يبدأ البطل مغامراته الإصلاحيَّة منطلقًا من موقف إيديولوجي شديد الوضوح بعد أن انقاد وراء الشعارات البراقة للأحزاب اليساريَّة عمومًا والشيوعية على نحوٍ خاص. فيشنُّ معاركه ضدَّ الجريمة والفساد والرشوة والمحسوبيَّات، معتقدًا أنَّ الفساد الاقتصادي هو رأس المشكلة وأسّها، لذا نراه يتحدث غير مرَّة عن الرمرام (يبدو أنها منحوتة من رامي ومخلوف على طريقة الفارياق في الساق على الساق) الذي ابتلع اقتصاد البلد، وغدا شريكًا للدولة والتجار في كلِّ شيء (ص75).

ويكتشف متأخرًا أنَّ الشعب يعرف الأسماء في قائمة الفاسدين جميعًا، وأنَّ الأمر لا يقتصر على الرمرام أو غيره: ((ولك عمي هذا من ذاك، وذاك ممَّن هو أعلى منه.. اتركها لربك..!)) (ص93)، وأنَّه يعرف أنَّها منظومة متكاملة تبدأ من الرأس السيد الجليل، ولا تنتهي عند بائع السجائر المهربة. لكنَّ بطلنا ورفاقه من الشيوعيين (وما شابههم ممن يسمون المعارضة الوطنيَّة) يصرُّون على رؤية الحقيقة مجزوءة، ويظنون أنَّ الأمر لا يتعدى قامة رئيس البلدية أو المخفر.. فيبقى أمله كبيرًا في الإصلاح وفي تدخل السيد الجليل لإنقاذ البلاد والعباد، ولا يكتشف إلَّا متأخراً أيضًا، وفي نهاية الرواية أن السيد الجليل هو رأس الفساد والمدير العام له.

 

الفساد والتدمير الثقافي 

ولا ينسى الكاتب (وهو من الإنتلجنسيا السوريَّة المحرومة من حقِّ التنفس) أن يعالج خطورة مسألة الفساد على المستوى الثقافي؛ فيكشف عبر جولات بطله عن التدمير الثقافي الذي أُلحق بمدينة حلب في عهد الأسد الابن، فقد هُدمت دور السينما (ص76) واختفت دور الثقافة، وتحولت المكتبات إلى محال لبيع الكنافة والحلويات (ص78) وبقي كثير من الأشياء في ساحة الجابري ما عدا الكتب التي اختفت خوفًا من أن تدوسها أقدام من اجتاحوا الساحة (ص207).

لا ينتمي بطل الرواية الرئيس إلى الحزب الشيوعي السوري الجبهوي، لكنَّه صديق مقرب منه، ويكتشف بالتدريج أنَّ هذا الحزب ليس بريئًا من جرائم التخريب الكبرى التي يتتبع تفاصيلها، وأن قادته منغمسون في منظومة الفساد الكليَّة.. ((عتبي عليك يا خالد، لم تقل لي إنَّ في حزبك برجوازيين كبارًا)) (ص174) (هنا تجدر الإشارة إلى الخلفيَّة الثقافيَّة التي تتحكم بلغة الكاتب والتي تعتبر البرجوازيَّ رمزًا للفساد) ويفضي هذا الاكتشاف المتأخر بالشيوعي خالد إلى الانسحاب من الحزب.

يرتدي البطل لباس جده ويتقلد سيفه الخشبيِّ على طريقة دون كيخوته الذي تنكَّب أسلحة أجداده العتيقة المثلومة، ليشن حربًا لا هوادة فيها ضد الفاسدين والمفسدين، يساعده لفيف من الأبطال الشبيهين بـ "سانشو بانزا"، فيصارع الفساد كما يصارع دون كيخوته طواحين الهواء أو قطعان الأغنام.. ولا يفسر هزائمه وانكساراته أمام ذوي القدرات إلا تفسيرات اعتاد على ترديدها كثيرون ((الرئيس ممتاز وما في منو بس اللي حواليه أرذال))، تمامًا كما فسر دون كيخوته معاركه مع طواحين الهواء وقطعان الأغنام بمحاولات خصومه الماورائيين حرمانه من النصر بتحويلهم العمالقة الحقيقيين إلى طواحين هواء ومسخهم الفرسان الأشداء أغنامًا.

أمَّا حبيبة البطل هيام التي لم يعرفها غير ليلة واحدة، وقضت على يد أخيها في جريمة شرف نكراء، فتذكرنا أيضاً بالفتاة دولوسينيا القرويَّة العاديَّة التي يراها دون كيخوته الأجمل والأنبل، فقد رسمها بطلنا في مخيلته بهذه الصورة، بل اصطنعها اصطناعًا لتضفي على الرواية متعة الحبِّ والجنس من ناحية، وتسوِّغ من ناحية أخرى تناولَ مسألة جرائم الشرف الشائعة في مجتمعات التخلف، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى اعتماد المؤلف مبدأ المصادفات السارَّة في كثير من أفعال أبطاله، ولاسيَّما ظهور هيام وغيابها.

وبما أن الرواية رواية بطل ومكان نرى البطلَ على طريقة الأمريكي أو. هنري O. Henry  يقود المؤلفَ رغمًا عنه ليتجول في الأمكنة الأثيرة لديه، وليكشف عن حبه وهيامه بهذه المدينة العريقة، فنراه يرتاد المطاعم، ويحتسي البيرة الباردة والقهوة اللذيذة.. حتى لتبدو حركة البطل في المكان خارجة عن إرادة المؤلف، وكأنَّهما يدخلان صراعًا طريفًا، يشبه صراع المؤلف مع بطله في قصَّة الأحجار الدوارة Rolling Stones، فالمؤلف يخيب ظنَّ البطل في كثير من الأحيان، ويحركه وفقًا لمشيئته، لكنَّ البطل الذي ينصاع لأوامر المؤلف يقرر الإصرار في نهاية المطاف على تناول العشاء في مطعم فاخر قائلًا: ((إنَّ لأيِّ شخصيَّة في القصَّة حقوقًا، لا يستطيع المؤلف أنْ يتجاهلها. إنَّ بطل القصَّة التي تتحدث عن الحياة الدنيويَّة في نيويورك يجب أنْ يتناول طعام العشاء في مطعم فاخر، ولو مرَّة واحدة على الأقل على مدار القصَّة كلِّها)). فما بالك ببطل يتحرك في شوارع حلب؟! ألا يحقُّ له أنْ يفعل أكثر من ذلك الذي يتجول في نيويورك، وحلب فيها ما فيها مما يلذُّ ويطيب، بل إنَّ طهاتها هم أهمُّ الطهاة في جنَّة المعري. 

 

الوصف الإنشائي كمبتغى وهدف

ولا ينسى الكاتب أن يوقف حركة الشخصيَّات في حمأة الأحداث لينعطف نحو الوصف، فيفلت لسان بطله للتفنن البلاغي والإنشاء الأدبي، فيتحوّل الوصف على يديه من مستوى تعبيري عن التجربة إلى مبتغى وهدف، ويتجلى ذلك على نحو خاص في وصفه مدينة المكان الأثير: الشوارع والأزقة والحدائق والساحات والمباني.. والكاتب الذي يبدو مرتاحًا للغته مفتونًا بها، لا يخيِّب الظنَّ في هذا الصدد فهو يكتب، ويصف بلغة عربيَّة فصيحة صحيحة لا تشوبها شائبة، ولا تندُّ عنه سقطةٌ لغوية إلا نادرًا، لكنَّه يخفق في إخفاء صنعته ومراسه في الكتابة الواعية، فنراه يتلاعب بالألفاظ ويختلق التشابيه والمجازات، دون أن يوفَّق في بعض الأحيان إلى قطف الزهور وابتداع فيض الطلاوة والحلاوة، بل إن ريشته تبدو أحيانًا، وبتأثير من عمله الطويل في مجالي الصحافة والسياسة، مكبَّلةً بلغة المقالات الصحفيَّة، والخطابات السياسيَّة، خالية من الحنين والموسيقا والشعر الراقص.  

ويبقى أن أشير إلى أن العنوان ((قبل الميلاد)) ترفعه على صفحة الغلاف المُبدَع أيادي عاشقيْن إلى الأعلى متوسلة السماءَ الميلادَ، لكنَّه لا يأتي، ويتطاول الزمان ليستغرق الرواية كلَّها دون أن ينبلج فجر الميلاد.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات