رواية (سنلتقي مهما كانت الاحتمالات) يوميات حرب النظام ضد شعبه.. والبطل معتقل مرتين!

رواية (سنلتقي مهما كانت الاحتمالات) يوميات حرب النظام ضد شعبه.. والبطل معتقل مرتين!

يصعب اعتبار رواية (سنلتقي مهما كانت الاحتمالات) لمؤلفها حازم أبو خير، والصادرة عن دار هدوء للنشر عام 2021 عملاً أدبياً لائقاً بأدب السيرة الذاتية، وإن قاربت بخجل ذاك الصنف الأدبي، لكنها بدت أقربَ إلى تقديم يوميات طافرةٍ فوق الورق، منه إلى بناء سرديات السير الذاتية. فقراءة هذا الكاتب لا تختلف مطلقاً عن مطالعة دفتر يوميات كاتبها، والذي نشأت منه بصورتها المطبوعة على الأرجح، إذ إن معظم الإنتاج الأدبي في مناطق سيطرة النظام السوري يُشخَّصُ بارتفاع منسوب الضحالة، وعدم النضوج الكافي في بناء الشخصيات والحبكة وتقنيات السرد، وكأن التأليف صار همَّ المؤلف ليرمي به هواجسه فحسب.

يومياتٌ بعينٍ واحدة!

تبدأ الرواية بتاريخ الإثنين 7/ أيلول/ 2015، حيث يتذكر البطل جلال تفاصيل خطبته التقليدية من عبير، ثم يعود السرد إلى تاريخ السبت 16/ كانون الثاني/ 2010 حيث الزمن الحقيقي لارتباطهما، لكن الحبكة وقد تجاذبها التقطيع الزمني لفعل الرويّ من دون زجّ ذاك التقطيع بوظائفَ بنائية كما يفترض به أن يكون، جعلها إنشاءً ركيك الصياغة يمسك بيد يوميات صاحبه كي لا تتوه منه، فالسرد اكتفى بملامسةٍ وصفيّة لإطار الشخصيات العام، نعلم فقط أن والد خطيبة جلال يمتلك مكتبةً صغيرة، كما كان معتقلاً سياسياً فيما مضى بسبب "مواقفه السياسية ولسانه السليط في مواجهة الأخطاء والمخطئين" ص 12، حيث لم يستخدم الراوي هنا مصطلحات واقعية كأن يقول مثلاً كان معارضاً للنظام. كذلك، ظلَّ الكاتب يستنطق قوالبَ وصفية مبتذلة وركيكة الجودة مثل: الأمومة الطاهرة، قامتك الشامخة، حلمك السليب، فتحْتي أطراف الكفن لجثة أحلامك المتفسخة، استطعنا تذليل الصعوبات، في كنف الأسرة العصامية ترعرعت وكبرت، منذ نعومة أظفاري، تبللُ خديك الدموعُ، مصابك الأليم، من صميم الفؤاد، باقات الورد اليانعة، للذود عن أرض الوطن، عدونا المتغطرس، النصر المؤزر، يذودون عن حياضه، الطبيعة تتغنى بجمالها، أشجار باسقة.  

لا شخصيات تجوب دروب الحبكة لدى أبو خير، ولا حوارات تغني فضاءها، فالراوي حافظ على وصفةِ وحدانية السارد والرؤية، كونه صاحب السرد والممسك بمفاتيحه، حين غيّب في بنائه للحبكة تنوع الشخصيات، وتنوع رؤاها لعقدة الحكاية وتفاصيلها. فنجده ينتقل إلى تاريخ الأحد 14 شباط 2010، يوم زفافه من عبير، من دون أن تفارقه اللغة الإنشائية وتسلّطها على بناء الحبكة، ويصير عنده الخلط واضحاًُ بين كتابة موضوع إنشاء مدرسي، وكتابة سرد روائي.

الربيع العربي مجرّد فصل عند الكاتب!     

بتاريخ الإثنين 1 تشرين الأول 2010، اكتشاف إصابة الزوجة بورم في الثدي، وفقدان شعرها جرّاء العلاج، الأمر الذي دفع بالبطل إلى جزّ شعره لدى حلاق تضامناً مع زوجته، ثم تعافيها من المرض، وتلك ذروة صغيرة بلغتها الحبكة، ولم يولها الكاتب أهمية في سعة سردها، ومرَّ بها كأنها تدوينةٌ طافرة من مذكراته.

ويوم الثلاثاء 15 شباط 2011، يقدم الكاتب وصفاً مجازياً للربيع العربي، ربيع الثورات ضد الأنظمة الاستبدادية، بأن يلبسه صفة فصل الربيع، نقرأ في الصفحة 21: ... وقف الربيع الحقيقي مذهولاً يحدق بملء عينيه على هذه النقلة النوعية، والخطوة الجريئة المحفوفة بشتى أنواع المخاطر، وقرر بعد تمعّن وتفكير عميقين أن ينسحب هو الآخر، ويترك للحياة حرية التجربة الحديثة…

يصرّ الكاتب على الخلط أيضاً بين دور الراوي بضمير الأنا للحبكة، وبين دور المتحدّث في سرد إنشائي وعظيّ ذي حبكة ينقص صناعتَها الكثيرُ من الإتقان، فهو في الصفحة 25 يقول:… وحده الشعب هو من دفع -وما زال يدفع- ثمن ذلك التخبط كله تحت مسميات عديدة من الحصار الاقتصادي والحرمان التجاري، الشيء الذي جعل العوز يكتسح بيوت الجميع، والشحُّ يضرب مستلزمات الحياة الأساسية من سلع غذائية وأدوية ضرورية، ناهيك عن تراجع عجلة الإنتاج المحلي بفعل التخريب الذي طالت يده الأشياء التي تنبض بالحياة كلها...    

جيش النظام في لغة السرد

يستعجل الكاتب في الاستنتاج الشخصي داخل لغة السرد فيغيّبها، بل ويستبدلها بتبذيرٍ من الإنشاء الذاتي، فيعتدي بذلك على حبكته الواهية أصلاً، إذ يرى بأن الحرب أصبحت بلمحة بصر حرب انحطاط وليست ثورة، وأصبحت البلاد مليئةً بالقتلة المأجورين، ومسرحاً للمتشددين والمتعصبين وحظيرةً للإرهابيين من أصقاع الأرض جميعها، يسرد ذلك في قالبٍ ذاتي لا روائي، كأنما يكتب مقال رأي في صحيفة محلية يديرها النظام السوري.

بتاريخ السبت 2 حزيران 2012، يقرر البطل/ الراوي تأدية الخدمة الاحتياطية، معللاً قراره بأن وطنيته دفعته لذلك، بالإضافة إلى رغبته بتجنّب الفصل التعسفي من وظيفته إن لم يؤدِ خدمة الاحتياط، ويوم الثلاثاء 1 كانون الثاني 2013 تسلّم البطل/ الراوي مهمته بعد انتهاء فترة تدريبه، وكانت الانتقال إلى ثكنة عسكرية في حلب. ثم يصف الكاتب نتفاً من حياة الناس المفجوعين في تلك المدينة، وبعضاً من مظاهر خدمته الاعتيادية، وعلاقته بالبندقية، وتذكره لزوجته، ويوم الأحد 8 كانون الأول 2013، يفجر حيدر المتهور المتسرع صاحبُ ثقافة الموت نفسه في دبابة على الجبهة الأخرى للقتال، ويتوالى سرد تفاصيل سمجة لا تصنع حبكة، كأن يمضي البطل/ الراوي ليلةً كاملة يسكر فيها ويتناول حبوباً مخدرة، يضحك ويبكي، ثم يهاتفُ زوجته البعيدة. وفي الصفحة 45 نجده ينهر صديقه أحمد صاحب الحبوب المخدرة، ويقول بلهجةٍ إنشائية ممجوجة:...نهرته بحدة أن يتخلص من ذاك الوباء القاتل، وأن يؤدي دوره الوطني بشرف تام، وألا يتبع طرق العدو بالعيش بين المتناقضات…

تالياً تقدّم الحبكة أول حوار يكسر إنشائية صناعتها، بين جلال وأحمد، وفيه يصف أحمد معاناتهم في جيش النظام من تأخر صرف مستحقاتهم المالية، ونسيانهم أشهراً طوالا لدرجة تمنيهم الموت لإخراجهم من تلك المهانة التي يحيون، وهذا ما برر به تعاطيه الحبوب المخدرة، نقرأ ذلك مندرجاً في المقطع المؤرخ بـيوم الأحد 10 آب 2014، وبعد أربعة أيام تقلّهم مروحية عسكرية خارج دائرة المعارك، وجثة أحمد ترافقهم، والاستهتار الذي تعامل به سلطات النظام جنودها يطلُّ علينا بوضوح، حيث يسرد البطل كيف بقي لساعات مع رفيقه الجندي الجريح في مطار بإحدى قرى مدينة جبلة التابعة للاذقية، وبعد ذلك رحلة جلال إلى دمشق مع رفيقه الجريح، ثم وصوله إلى السويداء، واصفاً شوقه لزوجته، وتفاصيل استقباله هناك، ثم عودته إلى خطوط الجبهة، ومرةً أخرى يصف الكاتب طريقة تعامل حواجز النظام السوري مع المارين، يقول في الصفحة 63:… تناول عنصر الحاجز هويتي العسكرية وورقة إجازتي النظامية من يدي بترفع وكبرياء، قرأها بطرف عينه، وأعادها دون أن ينطق بحرف واحد، وأكمل مسيره بين ركاب الحافلة، يفرض عليهم هيمنةً عسكرية تعكس صورةً همجية لم نتعلّمها في أي مرجع أو منشأة عسكرية…

البطل معتقلاً مرتين

في هذا الجزء من الحبكة تمرُّ الأحداث بانعطافات سريعة، رافعةً من إيقاع السرد، حيث يُؤسر جلال، ويصف كيف أجبره من أسره على ترديد عبارات الانشقاق عن النظام ومؤسساته، ثم إطلاق سراحه، وتسليمه نفسه لأقرب نقطة عسكرية، وهناك يقتاد إلى معتقل يتبع أحد الأجهزة الأمنية، بتهمة الانتماء لتنظيم إرهابي! وهناك يتلقى قسطاً وافياً من الذل والمهانة التي تجيد تلقينها أجهزة النظام السوري القمعية، ثم يتدخّل "ناجي بيك" لأجل تحريره، وإعادته إلى قطعته العسكرية، والذي يوضح لنا السرد لاحقاً بأنه صديق قديم لوالد زوجة البطل. وبعد تاريخ الأربعاء 22 تشرين الثاني 2014 تشتدُ المعارك، وينسحب جنود النظام تاركين جلال يقاتل بمفرده، وعندما انسحب كان آخر المنسحبين، ثم أصيب قبل بلوغه خيمته، ثم يتلقى علاجاً في مستشفًى ريفي، ليتعرّف هناك على تفاصيل نجاته. 

الحبكة لدى أبو خير بالكاد تلحظ حوارين أو ثلاثة بين شخصياتها، والتي نجدها كندبٍ فوق جسد الحبكة المسطّحة تماماً كالذي ظهر في الصفحة 83 حين يقول جلال لزوجته: لقد خانوني يا عبير، تركوني وحيداً تحت وابل الرصاص…

وهي تردّ: المهم أنك عدت، ولا يهمني شيء آخر…

ثم يقرر جلال ترك المستشفى المركزي في العاصمة نتيجة رداءة الخدمة الطبية والاستشفائية، والعود إلى بيته وهذا ما كان، فإصابته بشظايا متعددة جعلته مقعداً بصورة دائمة، ويوم الجمعة 20 شباط 2015، يقول جلال في الصفحة 94: ... أهي سياسةٌ تلك التي يقبل القائمون على رسم أبعادها أن يكون الإنسان في هذا الوقت هو أرخص الأشياء…

دفتر مذكرات لم يصنع سرداً روائياً

اندفع سرد حازم أبو خير في آخره إلى خلاصٍ تراجيدي لم يكن سوى إنصاف يائس لعقدة الحبكة الرئيسية المتمثلة بالانحدار النفسي والجسدي للبطل بعد إصابته في آخر المعارك التي خاضها، حيث تموت عبير بتفجير إرهابي يوم السبت 7 آذار 2015، ويلحق بها جلال منتحراً بعد ستة أشهر.

كان بالإمكان الاتكاء على تلك المذكرات لتكون مادةً أساسية تخلق الحبكة، وتخلق داخلها شخصيات تأخذ حيّزاً جاداً في بنية السرد، وربما في مشاركة الكاتب السردَ نفسه.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات