القامشلي أرملة المدن: بلادٌ أم ثلاّجــة؟!

القامشلي أرملة المدن: بلادٌ أم ثلاّجــة؟!

بلادٌ هذه التي نحن فيها، أم ثلاجاتٌ "لحفظ الموتى"؟!

بيوتٌ هذه، أم مجرد قبورٍ رسموا لها شرفات ونوافذ كي "تتهوى" الجثث فيها، ولا تفوح روائحُها مطلع كل شمس؟!

شوارع أم دهاليز تفضي إلى العتمة،.. شجرٌ أم أسـرّة على أضرحةٍ منتشرة؟!

أرصفة للمارة أم محطّات انتظارٍ للقيامات التي باتت مستحيلة؟!..

كنا قابلين للتحريض،.. كان في وجوهنا بعض الحياء،.. لم نعدْ كذلك،.. لم نعدْ نستحي من شيء،.. ربطوا إلى أعناقنا رغيف الخبز ومدّوا حبله الطويل وصرخوا بنا: اركضوا خلفه كي لا تموتوا من الجوع!..

الموتى لا يموتون فكيف صدّقنا أكذوبة الحياة!..

لم نعدْ الجسد الذي إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى،.. ولم نعد إخوة، لأننا لم نعدْ مؤمنين بشيء؟! 

لا أدري ما هي المقدرة التي أفرغتنا من الحَميّة والنخوة وإغاثة الملهوف،.. ما هي القوة التي حقنتنا بمصل اللا حول واللا قوة؟! فصرنا مجرد رخويات تدّعي أنها قادرة على الوقوف!

لم تكن الناس بحاجة إلى نفيرٍ لتعبّر عن الرفض،.. لم تكن بحاجة إلى من يزجّها في الشوارع كي تتظاهر وتتمرّدَ وتحطّم الصمت، فما الذي حلّ بكل هذه الشعوب التي تنام قريرة العين ومرتاحة الضمير وهانئة البال بين الأزرقين؟!..

هل لكثرة ما أدمنّا صورة الشاشات الملوّنة، بتنا نعتقد أن ما يجري في سورية اليوم مجرد مسلسل تركي كل أحداثه تمثيل في تمثيل،.. وأن الذين سقطوا ويسقطون بالعشرات والمئات سيقومون بعد انزياح الكاميرا مرة ثانية، إلى الحياة.  

وأن المنازل التي تسقط على رؤوس أصحابها، مجرد علب كرتونية تم إعدادها فقط من أجل دراما عصرية ناجحة!..

وهل للأمر ذاته لا نبدي أيّ اهتمام والقوة التي تحكم العالم اليوم تجول في بلادنا وبلاد الآخرين لتنال المباركة الشاملة كي تتحول سورية إلى أفغانستان جديدة؟!

 

محوٌ للهوية.. القامشلي أنموذجٌ حيّ

البيوت الطينية ذات الأسقف المنسوجة من الخشب والقش والملح والتراب، كانت هوية للقامشلي مدينتي الأولى والأخيرة، عشرات البيوت كانت تقف متلاصقة، تتصل أسطحتها، ولا يفصل بين بيت وآخر سوى جدار وطيء وبضع شجرات..

كان بإمكان أيّ إنسان ينتمي للمدينة التنقل بين بيوت الجيران من خلال السطوح، لم يكن أحد يخشى اللصوص، أو يخاف من تلصص الآخرين، كنا عائلة واحدة، بيتاً كبيراً واحداً، مع اختلاف التسميات للعوائل والأفراد..

منذ دخلت القامشلي عصر الإسمنت، والأبنية ذات الطوابق المتعددة، تم الفصل بين الناس أولاً، وبين الناس والتراب.

القريبون من التراب، الملتصقون به يعشقونه أكثر. منذ ارتفع الناس عن هذا العناق الحميم، خفتت في أعماقهم مصابيح الانتماء للأرض.

الرائع أنّ القبور في بلادنا لا تزال ملتصقة بالتربة، لهذا الموتى أكثر وطنية والتزاماً بأرضهم من الأحياء. هم باقون هناك لا يغادرون وطنهم مهما تعددت الأسباب وتنوّعت الدوافع للرحيل.

القامشلي التي أسميتها قبل أكثر من 40 عاماً “أرملة المدن”، لكونها كانت منذ تأسست الخزّان الاقتصادي الأكبر لكل الأنظمة التي تعاقبت على سورية، مدينة البترول السوري، من خلال حقول الرميلان وسواها، ومدينة حقول القمح والقطن والشعير، والتي تعطي سنوياً من خلال مواسمها خير الغلال لأفضل أنواع القمح الذي يتم تصديره ويستورد بدلاً منه أسوأ أنواع القمح لكي تكون علفاً بكل أسف لزارعي الذهب الأشقر.

والقامشلي بتنوّعها المديني كانت ربما أكثر مدينة في العالم تمتلىء بجنسيات وشعوب ولغات بلا حصر، ففيها السريان والكلدان والأشوريون والأكراد والشركس والعرب والماردينيون والأرمن واليزيديون، وكلهم كانوا يعيشون فعلاً بأمان ومشاركة وانصهار حقيقي.

نظام الحزب الواحد، والعرق الواحد، قسم المدينة كما غالبية المدن السورية إلى أكثرية وأقليات، وأسس لأثرياء قلة ومحرومين بلا عدد، أثرياء غالبيتهم جمعوا ثرواتهم بالفساد والعمالة والطأطأة.. ومحرومون غالبيتهم من الأقليات، المحرومة من الجنسية، ومن خيرات البلد، ومن الحظوة لدى أهل السلطة.

السلطة استعملت قسماً كبيراً من المنتمين لتلك الأقليات بشراء الضمائر والتوظيف المخابراتي، وهذا استمر لما بعد الثورة...

القامشلي ما عادت كما كانت الهوية الكبيرة الوطنية لشعوب وفئات مختلفة، الأقليات سطت على ما تبقى حين انحلّت السلطة، وهاجر كثيرون من السريان والآشوريين وسواهم قبل وأثناء الثورة، وهنا برز الأكراد أو بعض الأكراد الذين كانوا في الأساس يعيشون في هوامش السلطة، فأصبحوا زندها وصوتها وسوطها، ثم انقلبوا عليها وهذا طبيعي عند الفئات التي لا تعرف الانتماء لأرض ووطن. أليست قوات سورية الديموقراطية أو ما يسمى بـ (قسد)، خير أنموذج على ذلك؟

 

عديد قسد مهرّبون سابقون وقاطعو طرق حاليون

أنا شخصياً غادرت مدينتي منذ أكثر من 35 عاماً وأدري لا عودة لي إليها حتى ولو كانت شاهدة قبر أمي تصرخ بي شوقاً، وروح والدي التي تغفو في البعيد.. لكن ما يخبرني به الذين تبقّوا هناك فادح وخطير..

القامشلي تخسر هويتها، تفقد ملامحها، حتى اسمها تغير، وقوات قسد التي جمعت في عديدها كل الذين كانوا قبل الثورة مهرّبين للدخان، والممنوعات، والقتلة والأميين، صاروا يحكمون الناس بسلطة الأمر الواقع!.

ولا عجب أن تسيطر قسد بدعم أمريكي على لقمة الناس، وأن تحاصرهم في مناطقهم وبيوتهم وعيشهم، وأن تنقلب على النظام الذي سلّمها مقاليد الانفصال والحكم الذاتي.. لا عجب.

ما يحصل كان يمكن اعتباره ردة فعل على أيام الحرمان والأقلوية، لكنه يذهب إلى أبعد، إلى تغيير هوية ولغة ووجه لمدينة كانت غارقة في حضارتها وتاريخها ومعاصرتها، لتصبح مجرد مدينة يحكمها قطاع الطرق الجدد، بقيادة رعاة البقر الأقدمين والجدد.

يا الله،.. كيف يرانا الآخرون في لوائح الشر الأعظم،.. ونحن في حقيقتنا مجرد صيصان، مجرد خراف تنساق بكل يسرٍ وسهولة إلى أي مسلخ قريب أو بعيد ليُصار للتضحية بها،.. كلما قرّر أحدهم الاحتفال!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات