سامر كحل: شاعر السويداء الذي يكتب عن نهر العاصي المعارض وعن مآلات وطن

سامر كحل: شاعر السويداء الذي يكتب عن نهر العاصي المعارض وعن مآلات وطن

أفقٌ مفتوح.. يقول الشعرَ كما سرديةٍ تفيضُ جمالاً وحركةً وفعلاً. عندما تتابعهُ تستأنس وتعجب، وتنفعل وتفرح وتحزن. 

كل الحياة حاضرةٌ في شعرهِ.. ينتظمُ شعرُهُ كمن يكتبُ بحثاً.. كلُّ شيءٍ، كلُّ إحساسٍ، كلْ خيالٍ، كثيرٌ من الفكر يحضر.. ينتقلُ من قصيدةٍ إلى أخرى، مستقراً على معيارٍ سامقٍ من الجمالِ والدهشةِ والبساطة، إن قالَ كلماتٍ سافرة مُشعّة، أو وضعَ رمزاً، أو رسمَ وحياً، أو أومأ مُشيراً. 

سامر كحل.. ابنُ السويداء، سليلُ ريفٍ، لا يُزاحمُ.. ولا يشتهي الحضورَ.. ولا يملكُ مهاراتِ التّسلقِ والانتهاز.. و ليس له مَلَكةً في البيعِ والشراء، 

ولا يُفتنُ بتغييرِ الألوانِ والأشكال. ثقيلٌ حملُ سامر الأصيل، وحركتُهُ دائماً تُخومُها القيمةُ والسُّمو، وعندما يبغي الراصدُ التقاطَ جمالياتِ نصوصهِ، يشعرُ أن الفلسفةَ تحضرُ هنا بكلِّ هيبتِها وجلالِها.. وكلما قرأتَ له أدركتَ أنّ المعرفةَ هي روحُ الجمال، وتظهرُ المعرفةُ في شعرهِ، بمواضيع إنسانيةٍ، وعلاقةٍ معقدةٍ بين السياسي والثقافي.

أغنية إلى العاصي: زحفُكَ الحق.. ولك رأي معارض!

ولستُ أمارسُ (الميتا مبالغة)، إذا قلتُ إن له فردية وخصوصية.. مما يؤكّدُ أن الموهبةَ تبلغُ سقفها، كلما أوغلَ الشاعرُ في الفرديّةِ، وكلما أكّدَ تخومَهُ مع الميتافريقي والسيسيولوجي والطبيعي. وتكشفُ المفاهيمُ الجماليةُ في شعرهِ، استمرارَ نصوصِهِ في الحياة، وتميزها. ويؤكّدُ هذا الارتباط الوثيق بين المعرفي والجمالي، على البعد الوجودي.

يكشفُ سامر في قصيدتِهِ عن نهرِ العاصي، واقعاً ورمزاً، قدرتهُ على اكتشافِ قيمِ التاريخِ والظواهر، ويختصرُ المعنى في كثافةٍ جماليةٍ فريدة. وعندما نُقيّمُ جمالياً شعر كحل، نشعرُ أننا أمامَ أيقوناتٍ جمالية، تطرحُ احتمالات الفكرِ والفلسفةِ والسؤال، ويظهرُ الكمالُ بهذا الحنينِ المستمر للمجهول والمكنون. كما يظهرُ مخزونُهُ الثقافي كمّاً ونوعاً، في الإشارةِ والرمزِ وذكرِ الحدث، والشغفِ المعرفي في مواضيعِ العلومِ والأساطيرِ والدّين. 

وتُقدمُ قصائدُهُ خصائصَنا كشعبٍ ننتمي إلى نسقٍ معين، قيمي وعقائدي. لا شكَّ أن وعي سامر الشاعر، يجعلُ المفاهيمَ الجماليةَ عنصراً أساسياً لنصوصِهِ، ويظهرُ هنا مُنتِجاً لرؤيا مبدعة عندما يستشفُّ نُذُرَ الفوضى والخراب والخسارة الروحية والإنسانية، وانزياح المفاهيم، وحضور التراجيديا الجماعية والفردية. 

لقد تراكمَ القبحُ، حتى تحولَ إلى إشكاليةٍ تقض مضجع المبدع، فالحياةُ تعقّدت مع التناقض، وتطرفت جداً إنسانياً واقتصادياً وقيمياً. ويؤكد أن البشريةَ تُشهرُ إفلاسها المعنوي والهوياتي. وهنا سامر يبدو شاعراً بجدارة، يعاني قطيعةً قيميةً ومالية، مع وطنه والعالم. وأشير إلى أنني قرأت له الكثير والمثير من القصائد، ولكنني آثرتُ أن أولمَ لصيدي الثمين عبر ثلاث من قصائد، مثلت مرحلته الراهنة من الحدث السوري...

في قصيدتهِ أغنيةٌ الى العاصي يقول:

أيها النهرُ فلتسرْ

لا يلوينّكَ القدرْ

أنت عاصٍ على الردى

لا يهمنّكَ الخطرْ

زحفُكَ الحقُّ زحفُهُ

ولك الطوعُ والأمرْ

لك رأيٌ مُعارضٌ

لستَ نهراً كأيِّ نهرْ

ضارباً في فرائِضكْ

مثلَ رعدٍ إذا هدرْ

من عصورٍ سحيقةٍ

والصدى منكَ ينتشرْ

لم تغيّركَ وُجهةٌ

أو حظى فيكَ مُستقرْ

حكمةُ الحرِّ حكمتكْ

وبكَ الدّيكُ جُنَّ شعرْ. 

هنا تبدو ناضجة علاقةُ الشاعرِ السوري، بالزمنِ والتاريخِ والحدث. هنا العاصي رمزُ التمرّدِ الأبدي، نهرٌ طبعَ مُساكنيهِ بسِماتِ العنادِ الذكي، المحرضِ على الرفض.

وعدم قبول شروطٍ ومحدّدات ..نهرٌ هو شعبٌ.. وشعبٌ هو نهرٌ، نهرٌ له اتجاهٌ معاكسٌ، ومسار مختلف، وناموسٌ متفرد، يفيض متى يشاء، وينحسر حيث شاء. حمصُ وحماة هِبتاه، فكم اتّزنَ حيثُ شاءت الظروف، وكم تمرّدَ عندما كانت ما لا يشتهي. لكنهُ راسخُ التوجهِ، يعاكسُ أنهار الدنيا، لم يُغيّر قط، ولن يتغيّر. كم يبدو سامر هنا صاحب رؤيا وهويّة! 

لقد تماهى مع مسارِ النهرِ المتمرٍد، المتمرّد حتى توأمه. النهر العاصي هو شاعرُنا الذي رمّزَ النهر كمكمنٍ سرمدي للقيمةِ والجمالِ والرفض. لغةٌ فيها سحرُ البساطة، وخيالٌ له روح المبدع، تواءما حتى الانسجام، وتقنيةٌ شعريةٌ جعلت النهرَ والتاريخَ والشعبَ كُلاً، مستخدماً الترميزَ والاستبطانَ وتقنيات اللغة، منتقلاً ببراعة نحو قصيدةٍ فيها حرية التناولِ والحوارِ مع الزمانِ والمكان، مُظهراً وعياً ذو قصديةٍ تؤكدُ العلاقةَ بين الشاعرِ وموضوعه.

ضرورة عابرة: واقعة داعش بين الوقيعة والخديعة

وفي قصيدتهِ " ضرورةٌ عابرة" التي يقولُ فيها:

لضرورةٍ فُرضت.. 

سنتركُ جانباً

قوس الرباب.. 

فنحنُ لم نعتدْ على ضيفِ الصباحِ مُحارباً فنجان قهوتنا.. 

ولم نعتدْ على رد التهلي حين نُشرعُ روحَنا لك والمضافةَ.. 

تُشرعُ السكينَ في وجهِ المُهلّي أيها الضيف الثقيلْ.. 

أتُراكَ أخطأت الدليلَ فجئت طوعاً نحو موتكَ؟ 

أم تخطاك الصهيلْ؟؟ 

لا وقتَ للجبليِّ في هذه الحمى ليظلَّ مُنتظراً لِجُودٍ.. 

أو ِلذَودٍ.. 

دأبُهُ دأب الرحيل..

فأمامَهُ ما قد يفوق الظن من عَوَزٍ.. 

ولكن خلفهُ تكفي الحرائرُ كي تجودَ وكي تذودَ وكي تُعذّي يومَ محنتهِ الدخيل.. 

لضرورةٍ سيؤجّلُ الولدُ الصغيرُ اللهوَ.. بضع هنيهةٍ ويُغيّرُ الإيقاعَ.. 

يخرجُ عن مقامِ صِباه نحو مقام قاتلْ.. أو قتيلْ...!! 

وهناكَ بضعُ ضرورةٍ أن ندفنَ القتلى.. 

ونرفعَ للسماءِ شهادةَ الشهداءِ.. 

ثم نعاود العيشَ الجميل.. 

هنا سامر لا يُغفل واقعة داعش، التي هاجمت الجبل، مُبدياً شجاعةً في تأكيدِ وتوثيقِ تاريخ الجبل المُتخم بالقيم، وبنفسِ الوقت، يُبطّنُ رسالةً لسلطةٍ قاهرةٍ، تُلبس ساعة تشاء أي عدوانٍ شكلَ طقسٍ واستعاراتٍ عصاباتٍ وأحزاب وسماسرة دينٍ ودم. أثناء الوقيعة الخديعة، تتداخلُ أزمنةُ الأمةِ السورية، ويتذكرُ الشاعرُ محيطَهُ بكل تجلياتهِ، قيمَهُ التي لا مَحيدَ عن الالتزام بها. يشكّلُ الصورةَ الأخلاقية، التي منها انطلقَ ليُحايثَ الحدث الرهيب، ويُنتِج قصيدةً تحاكمُ وتستنكرُ التشوهَ في الهدفِ وقبحَ الأدوات. 

ويُظهرُ كثيراً من الخيبةِ وفقدانِ الثقةِ في أي تواصلٍ سامٍ ومُجدٍ، ويظهر أن التصالحَ مع الغدرِ والخديعةِ أمرٌ مستحيل، بل يذهبُ إلى وصفِ المشهد القاسي بأنه انتحارٌ للقيمِ وأنه إفلاسٌ فكريٌّ وروحي، ويبدو ساخراً من حالاتٍ تعويضيةٍ عبر الهجومِ الغادرِ الذي عبرت فيه المجموعاتُ المهاجمة، عن هزيمةٍ ومأزقٍ ماضويٍّ وراهن. ويُظهر قدرة السلطة في شيطنةِ الذواتِ الناهضةِ المتمردة، وتحويلها في إعلامٍ ماسخٍ وتدوين خؤون، إلى سردياتٍ باهتةٍ عبرَ قتلٍ ماديٍّ ومعنوي.

جبلُ العرب وقت الفاجعةِ، يؤجلُ كلَّ المشاريعِ الآن، ويعي أن صباحات القهوةِ والترحيبِ والسّعة، لم تكن على موعدٍ مع سحرها ورِهانها مع الضيوفِ وقوسِ الرباب، خبأ النغمَ في الأوتار، واتكأَ مُنتظراً أن يكونَ العازف والجمهور، أو لا.. فاللحظةُ خطرٌ وجوديٌّ.. ولا محظورَ مع غدرِ خططٍ.. ليكونَ حُكماً مُبرماً بالفناء، وليس أكثرَ من خيارٍ واحدٍ لا غيرهُ، علينا قَبولَه، أن نعيش، أو ليتقبّلْ ترابُ الوطنِ أرواحَنا، وهذا دأبُ الجبل. سُفحت دماء كثيرةٌ ستزهرُ حتماً غداً جميل.

رشة أسئلة: عبثية المآل والمصير! 

وفي قصيدته" رشّة أسئلة" يقول:

 قصائدي.. 

التي كنتُ أحرثُ تربةَ الخيال.. 

لأُطعمَها خبزَ اللغةِ الحلال.. 

أُجرجِرُها الآن معي في الغربةِ.. 

نصفُ عاريةٍ تحت مطر الحنين.. 

تبيع اليانصيب في شوارع المجاز.. 

وتُنظّفُ زجاجَ وسائطِ الوجدِ الفارهة.. 

تجلسُ القرفصاء.. 

تُبلّلُ كسرةَ قمرٍ يابسٍ برشةِ أسئلة.. 

وتمضغها بأسنان الدهشةِ الطريّة..

بينما الطريقُ التي كانت تجيءُ بقاطرات الحلم تُقفلُ عائدةً.. 

وينكسرُ زجاجُ الرؤيا بخبرٍ.. عاجل من الوطن.. 

تتداخلُ أضواءُ إشارةِ المرور.. 

وتنطفئ...

هنا يطرحُ شاعرُنا أسئلةً، تتعلقُ بعبثيةِ المآلِ والمصيرً واللغة، هنا هي الأمةُ بكلّ ثِقلها وتنوعاتها، التاريخية والجغرافية والفكرية. أمةٌ تقفُ على حافةِ مذبحٍ ومقتلة، في مشهدٍ سورياليٍ قاتلٍ لكلِّ ما هو إنسانيٌّ وأخلاقي.. هي ذي حياةُ اللغةِ الحلال، التي سُبيت تماماً في وقاحةٍ وفجور، سموُّها رفعتُها، خصائصُها، روحُها تُنحَرُ بدمٍ بارد.. 

غريبةٌ هي اليوم، يجرجرها في غربته القاتلة.. الغربةُ مكانُ النفيِ الذي قذفَهُ بعيداً، في وحشة الأسئلة اللامتناهية. هنا يطرح سامر وظيفةَ اللغةِ بأبعادها وآفاقها.. اللغةُ هنا مسرحٌ تعرّت على منصته، تبثُّ وجعها، وتُطلق صرخةً تفوقُ المحلّي والقومي، لتصل الإنسانية. 

اللغةُ التي فقدت أمنَها وسكنَها وذواكرَها ومعابرَها.. اللغةُ في غربةِ شاعرِنا، تُعبّرُ عن وجهةِ نظرهِ في نقدِ الظلمِ والقمعِ وعارِ التخلي.. واللغةُ هنا تصبُّ في روافد الحياة، وتنهلُ منها. ولكن ينابيعها ومصباتها تبتعدُ وتكادُ تنضب، والطريقُ متطاولةٌ ومحفورةٌ بعمقٍ لتصلَ إليها.. يهفو شاعرُنا إلى نهضةٍ وقيامةٍ، و يفجرهُ الواقعُ السافرُ بوقاحتهِ ورداءته. وتبدو القصيدةُ الساخطة وكأن مهمتها إيقاظُ الزمان والمكان، ويبدو أنّ كلّ شيءٍ باتَ احتمالا..

شاعر مثقل بالماضي والمستقبل

الخبرُ العاجلُ من الوطن، يجعلُ النداءَ المُلحَّ بدعةً، و يعود الغريبُ يجرُّ لغتَهُ، مُثقلاً بالماضي والمستقبل معاً، لكنهُ مُرتعدٌ مُشوش الرؤيا.. قصيدةٌ لها تقنيةٌ خاصةٌ ومتفردة، فيها كل التضمين، تبدو تجريديةً تنبشُ عبر أسئلتها المسكوت عنهُ، وتفضحُ المخبوءَ، وتُندّدُ بالصمتِ وقبولِ العار.. وتحاولُ الإشارةَ الى الثغراتِ التي سكت عنها تاريخُ التّستُّرِ والتَّقيّةِ الآثم. 

وهكذا.. 

كان سامر كحل الشاعر الذي أنجزَ أكثرَ من خمسةِ دواوين، ونالَ جوائزَ قيمة، مبدعاً.. وقد رأيتُ في شعرهِ أسئلتي وأسئلة الجميع، وجهه جامعٌ، وخبرتهُ أيضاً خبرتنا. سامر كحل.. يكسرُ كل المألوف دون ضجيج، ويُعيدُ التشكيلَ ببراعةٍ وإبداعٍ، مُظهراً رؤيةً لها كلّ النورِ والسطوع.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات