ما الخرف الأيديولوجي؟

ما الخرف الأيديولوجي؟

تحدثت في مقالة سابقة عن الجنون الأيديولوجي، والجنون الأيديولوجي هو استعار الأيديولوجيا لدى مقنعتها بحيث تصيبهم بالعماء وتمنح إرادتهم قوة لاعقلية تدميرية. أما الخرف الأيديولوجي فهو الأيديولوجيا في حالة شيخوختها.

فما الخرف الأيديولوجي الراهن؟ لغوياً الخرف من الفعل الثلاثي خرف: فسد عقله من الكبر أو انقطعت صلته بالواقع. وانقطاع الصلة بالواقع يخلق أشكالاً متعددة من السلوك المرضي، أو اللاسوي في أحسن الأحوال. إن تعريف الخرف بوصفه انقطاع الصلة بالواقع، يؤكد ما نذهب إليه من تعريف الخرف الأيديولوجي.

فالخرف الأيديولوجي لا يصيب الأيديولوجي الذي يبلغ من العمر عتياً وظل متمسكاً بأيديولوجيا فقدت صلتها بالواقع فقط ، وليس وقفاً على الجماعات المعنّدة في أوهامها الأيديولوجية، وإنما يصيب الجميع من كل الأعمار والأزمان. والحق أن العالم العربي الآن يعاني من وجود عدة أشكال من الخرف الأيديولوجي ومن النتائج الكارثية لخرف كهذا، لأن الأيديولوجيا مرتبطة بالسلوك.

ولا نستطيع أن نقف عند كل أشكال الخرف الأيديولوجي في مقالة صغيرة، ولهذا سنقف عند بعض الأشكال. فلو تأملنا الأيديولوجية الميليشياوية الأصولية الآن واستطالاتها، فلا شك أننا واجدون نموذجاً فذاً للخرف الأيديولوجي المترافق مع جنون أيديولوجي. 

فعندما يصرح زعيم ميليشيا شيعية عراقية بأن المعركة مازالت حتى الآن بين أنصار حسين بن علي وأنصار يزيد بن معاوية بكل ما ينطوي عليه هذا القول من خرف أيديولوجي فإنه ،أي هذا الخرف يفضي إلى جنون ثأري في القرن الحادي والعشرين من حدث تاريخي مرتبط بالصراع على السلطة،وعلى السلطة فقط ،ينتمي إلى القرن السابع الميلادي.

فالحكم على الحاضر بترسيمات وأشباه مفاهيم وقوانين وأعراف عالم قديم، أمر مستحيل منطقياً وواقعياً ومعرفياً ،بل هو أخطر أعراض الخرف الأيديولوجي.

ولأنه ليس بمقدور الواقع  أن يستمرئ أمراً كهذا، ولّد هذا الخرف الأيديولوجي حركات عنفيةً تسعى لتكسير رأس التاريخ، مستغلة الخرف الأيديولوجي للدكتاتوريات التي حكمت انطلاقاً من عقلية الاحتلال واحتكار القوة، بل إن الحركات المسلحة التي أخذت أسماء كحزب الله وأنصار الله وجند الله ونصرة الله، والتي تحمل السلاح وتنظم نفسها تنظيماً فاشياً، ما هي إلا صور فاقعة من صور وحدة  الخرف الأيديولوجي مع الجنون الأيديولوجي.

والخرف الأيديولوجي الشيوعي المستمر بصورته القديمة، رغم انهيار التجربة السوفييتية أو أشباهها في أوروبا الشرقية، والمستمر عند بعض الأفراد والأحزاب القديمة، لا يقل عن الخرف الأيديولوجي الأصولي الديني.

فما زال البكداشيون السوربون وما شابههم من الشيوعيين العرب بسبب خرفهم الأيديولوجي يتعاملون مع روسيا الرأسمالية على أنها الاتحاد السوفييتي،ويرون في بوتين الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي. 

ولكن من حسن حظ الواقع أن النتائج السلبية لخرف كهذا، لا تتعدى الكتابة والمواقف السياسية السلمية، وآية ذلك أن الشيوعية مهما أخذت طابع الدين الدنيوي، تظل في الوعي ابنة الأرض وخالية من المقدّس، ولهذا خضعت للنقد من أصحابها أنفسهم.

أما أشكال الخرف الأيديولوجي المستترة فحدثْ ولا حرج، وهي مستترة لأنها لا تظهر إلا في الممارسة وليس في الخطاب، وهي لا تقل خطورةً عن أي أيديولوجيا معلنة إن لم تكن أخطر من المعلن. فالاعتقاد بأن أمريكا تفكر بمصالح الآخرين لتحققها، فهذا خرف ناتج عن الأوهام القومية.

والاعتقاد بأن العالم ثابت وخارج السيرورة والتغيير، هو خرف يصيب بعض الجماعات الحاكمة الفاقدة لحس الشم التاريخي، فتقودها هذه الحال إلى العمى التاريخي .

وتأسيساً على ما سبق ذكره، فإن ماهية الخرف الأيديولوجي تظهر أكثر ما تظهر في المراحل الانتقالية للتاريخ، حيث الشيخوخة الأيديولوجية تقوم بالهذيان وتتحول إلى ذاكرة ليس فيها إلى القديم.  

التعليقات (1)

    سوريا الحرة

    ·منذ سنة 11 شهر
    الله ما أجمل مقالاتك يا دكتور احمد تملك هذه الثقافة الراقية الحرة و الفكر الرفيع انك تقدم الرؤية الأكثر واقعية و شفافية انت لا تقدم مقالة فقط انت تقدم لنا الحقيقة التي نخشى رؤيتها شكرًا جزيلا الدكتور احمد البرقاوي
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات