في اليوم العالمي للاجئين.. لم يُبنَ هذا الوطن ليكون مستنقعاً للكراهية

في اليوم العالمي للاجئين.. لم يُبنَ هذا الوطن ليكون مستنقعاً للكراهية

ليس وجود اللاجئين على اختلاف جنسياتهم في تركيا شيئاً طارئاً عليها، فلطالما كانت تركيا دولة ملجئة تؤوي المضطهدين والباحثين عن ملاذ آمن وتقدم لهم ما تيسّر لها أن تقدمه من خدمات ورعاية وحماية حتى قبل أن تكون هناك تشريعات واتفاقيات تتعلق بحقوق اللاجئين بزمن طويل، يدفعها إلى ذلك شريعة آمن بها شعبها وقيم وعادات ترسخت في الضمير الجمعي للمجتمع حتى قبل ولادة الدولة التركية الحديثة . 

قبل أكثر من خمسة قرون وفّرت تلك الدولة ملاذاً آمناً لليهود الذين كانوا هدفاً للاضطهاد والقتل في الأندلس وأوروبا عموماً وأسبغت عليهم حمايتها ومنحتهم الحق في الإقامة والعمل في كثير من المدن والأماكن التي تقع تحت سلطانها، وتلك كانت حقوق المواطنة وفق مفاهيم ذلك الزمان  .. كما وفّرت للشركس ملجأً آمناً عندما تعرّضوا للاضطهاد والتهجير على يد روسيا القيصرية قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان، وكذلك فعلت مع الألبان والكوسوفيين والأيغور والبوسنيين ومع الإيرانيين الفارّين من اضطهاد نظام الخميني ومع العراقيين كرداً وعرباً الفارّين من اضطهاد البعث وجرائمه .. ومع الليبيين واليمنيين والسوريين، حتى ليمكننا القول إن نسبة معقولة من المواطنين الأتراك لهم أصول مهاجرة .. كما سيكون لنسبة كبيرة منهم مستقبلاً أصول سورية أو عراقية أو غير ذلك ، لكن يبقى الجميع في النهاية أتراكاً يعيشون على نفس الأرض التي جاء إليها أجدادهم لاجئين . 

إذاً فاللجوء لتلك البلاد جزء أصيل من تاريخها وحاضرها .. لكن لغة الكراهية والسلوك العنصري هو الطارئ عليها .. وهو الذي يجب أن تتكاتف الجهود والأيدي لنبذه ومواجهته ليس فقط لكونه يشوّه وجه هذه البلاد ويسيء إليها ، ولكن أيضاً لكونه يؤسس لانقسامات مجتمعية خطيرة يمكن لها إذا ما تمّ التهاون بشأنها أن تطيح بكل مكاسب هذا المجتمع الذي حقق قفزات مهمة وملموسة في سلّم التطور الاقتصادي والعمراني والخدمي والمدني عموماً، وتعيدُ هذا البلد لا قدّر الله إلى مراحل لا يريد أحد من أبنائه العودة إليها أبداً، لذلك سيكون من المهم لأجل مستقبل تركيا إخراس تلك الغربان التي لا تكفّ عن النعيق صباح مساء وتنفخ في كير العنصرية في محاولة دنيئة لاستثمار بعض الأزمات ووضع حمولاتها على عاتق اللاجئين توظيفاً لتلك القضية في صراعها السياسي والانتخابي، وهو ما يشي حقيقةً بضحالة تلك ( النخب) السياسية التي فشلت في تبنّي برنامجٍ وطني لاستعادة حيوية الاقتصاد وتطوير الخدمات وتوفير وتنويع فرص العمل والاستجابة لحاجات وموجبات الرفاه المجتمعي. 

في اليوم العالمي للاجئين من المهم القول والتذكير، إن هذا الوطن لم يُبنَ وتترسخ فيه قيمة إيواء المضطهدين وتوفير ملاذ آمن لهم كقيمة مجتمعية وسلوك دولة لكي يحوّله بعض المرضى والمعتوهين والمتطرفين إلى مستنقع آسن بخطاب الكراهية والسلوك العنصري البغيض، ولا أعتقد أنهم سيتمكنون من فعل ذلك على الرغم مما يطفو على السطح الآن من سلوكيات وممارسات وضيعة تجاه اللاجئين السوريين، وستبقى مجرد أعراض جانبية، ما يزال من الممكن مواجهتها بالأدوات القانونية ومعالجة أسبابها وإنتاناتها بمزيد من العمل الحكومي والمجتمعي الحقوقي والإعلامي والتوعوي العام، وما يزال ممكناً إفساح المجال وتوفير مختلف عناصر وسبل الاندماج بين هؤلاء اللاجئين والمجتمع الملجئ . 

في اليوم العالمي للاجئين من المهم أيضاً القول إن عدد اللاجئين السوريين قد تجاوز ستة ملايين لاجئ في العالم .. و إن تركيا وحدها استوعبت ووفّرت ملاذاً لثلثَي هذا العدد من اللاجئين السوريين وهو ليس بالعبء الهيّن، وعلينا كسوريين ليس فقط ألّا ننسى ذلك، وإنما أيضاً أن نحترمه .. وألّا نفسح للأخطاء التي ترتكب في سياق إدارة ملف اللاجئين السوريين والتي ننتقدها بقوة ونسلط الضوء عليها ، ولا لتلك السلوكيات والجرائم التي ترتكب من بعض العنصريين من الرعاع وشذاذ الآفاق - مقام السوء في نفوسنا تجاه هذا البلد وشعبه، فما تزال ثمة إمكانيات كبيرة وكثيرة لتصحيح هذا الخلل المصطنع  . 

  وعلى الوجه الآخر فإن وجود ما يقارب أربعة ملايين لاجئ سوري في تركيا، ومثلهم من النازحين الموجودين في مناطق شمال سوريا، أي ما يعادل حوالي ثمانية ملايين سوري، أي ثلث عدد سكان سوريا يعيشون فعلياً تحت إدارة وسلطة تركيا وقوانينها بشكل مباشر أو غير مباشر على الأقل منذ سبع سنوات، وهم يشكلون رصيداً في جعبتها السياسية والإستراتيجية وقوة ناعمة يمكن أن تدّخرها للاستثمار في المستقبل السوري إذا ما أحسنت إدارة أوضاعهم وشؤونهم على أراضيها، وقدمت العون المأمول لمن هم خارج حدودها ليعيدوا صياغة وبناء حاضرهم على أراضيهم . 

ومع الأسف ماتزال التجربة فيما يتعلق بمناطق شمال سوريا غير مشجعة، ولا يشي واقع الحال إلا بفشل واضح يزيد الفجوة بين السوريين في تلك المناطق وتركيا، فإصرار الجانب التركي على التعامل مع شراذم ميليشيوية امتهنت حمل السلاح وتوظيفه لإعادة تدجين المجتمع وحرمانه من فرصة بناء تجربة إدارة محلية ناجحة لشؤونهم وعلى أرضهم، يعني إصراراً على التعامل بنظرة قصيرة الأمد ربما تحقق مصالح آنية للدولة التركية لكنها بالقطع لا تحقق أي مصلحة أو نجاح للسوريين في إدارة شؤونهم وهو ما يعمّق الفجوة أكثر .. كما إن تسجيل الكثير من حالات الفشل في إدارة ملف اللاجئين السوريين في تركيا ، وتعرّض الكثير منهم لعمليات ترحيل قسري بلا سبب أو لأسباب تافهة، مضافاً إليها ضعف الاستجابة في معظم الأحيان بشأن ما يتعرض له السوريون من اعتداءات أو جرائم أو انتهاكات، كل ذلك خلّف صدمة وخيبة أمل لدى السوريين دفعت الكثير منهم لمغادرة تركيا، وكثيرون أيضاً ما يزالون يبحثون عن مخرج منها.. كل ذلك من شأنه أن يفقد تركيا على المدى البعيد تلك القوة الناعمة التي ستحتاج إليها مستقبلاً على مستوى صناعة السياسات الإستراتيجية للدولة التركية على الأقل فيما يتعلق منها بالعمق العربي  . 

  كل ذلك .. ورغم كل هذا الفحيح العنصري اللئيم، يجب ألّا يحجب عنا رؤية حقيقة وقيمة ما بذلته تلك الدولة من جهود لإدارة شؤون أربعة ملايين لاجئ سوري لديها بأعلى المعايير الخدمية المتاحة أو الممكنة، وأن نكون ممتنّين لذلك، وأن نكون أيضاً شفافين ومخلصين في المجاهرة بنقد بعض السياسات والقرارات والإجراءات المتبعة في ذات المضمار بهدف تصويبها، إعلاءً للمصالح المشتركة للشعبين الجارين .  

  

 

التعليقات (1)

    احمد

    ·منذ سنة 10 أشهر
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته انا من متابعي كتابات الاستاذ غزوان بفعل هو افضل من كتب على صفحة قناة اورينت
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات