نهاية العقد الاجتماعي: هل السويداء مدينة؟!

نهاية العقد الاجتماعي: هل السويداء مدينة؟!

الفرجة على السويداء من داخلها أو من خارجها، تكنسُ احتياطي ما تبقى من أنماط تفكيرٍ واعتقاد سائدَين بأن هذه المحافظة وقراها يربطها عقدٌ اجتماعي مع السلطة السياسية القائمة، وتلك سلطة الأمر الواقع، لا سلطة ارتضائية شكّلتها مقولات جان جاك روسو حين عبرَ منها إلى نظريته عن العقد الاجتماعي.

فالدولة بمفهومها المؤسساتي انسحبت من صيغتها التعاقدية مع المجتمع المحليّ، وهو انسحابٌ براغماتي عميق حدث من طرف واحد، إذ لم يتجرّأ الدروز بعدُ على إنهاء عقدهم الاجتماعي مع سلطة نظام بشار، بل تواقحت السلطة، وأنهته بمفردها كإجراء براغماتي أولاً، بحيث تنازلت عن دورها الاقتصادي، وألحقته بأدوارٍ مكونةٍ من أسواق الظل، ومن لصوص الجباية داخل دائرة الخدمات الحكومية التافهة والضرائب، لتشرعن بذلك سرقتها الممنهجة لكامل السيولة المالية التي يملكها المجتمع، وكإجراء تأديبيّ ثانياً، بحيث أعادت علاقات الفضاء الاجتماعي إلى منظومة ما قبل الدولة المدنية، وكلُّ هذا يفسّر طبيعة السلطة القائمة ومكوناتها الانتهازية الطفيلية، أكثر من كونه يعكس مأزقيّتها الوجودية.      

السويداء، الهجرة نحو السوق

خلال الخمس عشرة سنةً الماضية استفاقت الأبراج والعمران الطابقي الشاقولي على نحو لافت داخل المدينة، وكان لا وجود لمثل تلك الاستطالات الإسمنتية قبل ذلك الوقت. لكن الفضاء الاجتماعي المدينيّ في السويداء ظل عالقاً في منابته الأولى، المتصلةِ بالعشائرية والعائلية كصيغةٍ ستلازم تعريف ذاك الفضاء الاجتماعي ومكوناته البدائيّة، فقاطنو المدينة هم امتدادٌ لعائلات قليلة سكنت في محيط السوق التجاري القديم الذي سيتحول لاحقاً إلى مدينة السويداء منها عائلات جربوع والباروكي ونعيم، وهم أيضاً الحصيلة التراكمية لاستيطان أبناء الريف في المدينة خلال رحلة مجاورتهم للوظيفة الحكومية، أو البحث عنها، وفي محاولة التخلّص النفسيّ من نعاس الريف ورتابة العيش فيه. ساكنو مدينة السويداء هم ريفيون إذاً، والفضاء الاجتماعي الذي يخلطهم هو فضاءٌ عائلي وعشائريُّ التكوين، لا فضاء مدينيّ يقوم على مكانة الفرد ويهمل حامله الاجتماعي.

ثم إنَّ خصائص السوق التجاري ستجدُ دلالاته ضمن مظاهر الحياة الاجتماعية لقاطني المدينة في كونهم سيلازمون منطق عمل السوق في حركتي بدء النشاط ونهايته، فشوارع المدينة ستكون مقفرة من المارة بعد إغلاق الدوائر الحكومية والمحالات التجارية والمطاعم، وستتقلص كثيراً خلال فترة الظهيرة، حتى إنَّ فكرة مركزيّة التجارة داخل المدينة جعلت سلالةَ مشيخة العقل الثانية من عائلة جربوع يطّلعون بإدارة أموال الوقف الدرزي، ويحتكرون هذا الدور الاقتصادي الحيوي حتى يومنا هذا، مقارنةً بالصبغة الروحية التي لا تزال تغلّف مشيخة العقل الأولى لدروز السويداء، وهي سلالة عائلة الهجري في قرية قنوات.

وحين تقدمت الثورة السورية 2011 داخل الفعل الاجتماعي، وجدنا كيف أن ظلالها سقطت على مدينة السويداء دون الريف، عبر تشكيلة متواضعة من آليات التعبير الاجتماعي التضامني، مثل القليل من المسيرات التي خَطَتْ بخجل نحو تأييد الثورة، وبعض الكتابات على الجدران الداعية لإسقاط بشار ونظامه، ووقفات إنارة الشموع، ولافتات التضامن مع المحافظات التي احتضنت الثورة، والتي صارت منكوبةً فيما بعد.  

وبالرغم من ذلك، فإن مدينة السويداء لم تتمايز عن الريف بشيء جوهري، بقيا متطابقين في نمط التفكير الجمعي، والتشكيلة الاجتماعية والاقتصادية السائدة، ومنظومة العلاقات التي تفرض شكل الفضاء الاجتماعي ومزاجه العام، وإن أردنا البلاغة هنا لقلنا: السويداء قريةٌ يتوسطها سوق تجاري، وهي لا تدري!

نهاية الدولة، بداية العصابات

لم يسقط النظام في السويداء، بل إنَّ الدولة بتعريفها الإجرائي الذي يُلحقها بالطرف الثاني للعقد الاجتماعي هي من سقط، بعدما غيّبت على نحوٍ مدروس ومتقن أساسيات بقاء المجتمع من حماية حياة الأفراد مروراً بتأمين ما يلزم استمرار تلك الحياة من خبز ومحروقات وكهرباء وماء وسوى ذلك.

ولأن المجتمع الدرزي هو مجتمع مغلق تؤلفه عائلاتٌ مترابطة بعلاقات مصاهرة، سواء في الريف أو في المدينة، نجده قد عاند فكرة انهيار الرابطة الاجتماعية بين مكوناته، وهي رابطة قربى بوجهٍ عام، فلم يحدث خرابٌ اجتماعي واقتتال داخلي بين مكوناته كما اشتهى النظام حدوثه حين انفكَّ بصورةٍ تدريجيّة عن الصيغة التعاقدية التي تربطه مع المجتمع، فنظام بشار لم يعد نظام دولة، وإنما عصبةُ لصوص تدير الشأن العام، وهذا ما تمَّ نسخه فعلياً على مستوى التفاصيل، إذ إنَّ العصابة في أعلى هرم السلطة بات يقابلها تناظريّاً عصاباتٌ في أدنى هرم السلطة، وفي السويداء يسهل استنتاج ذلك، بعدما امتلكت عصابة راجي فلحوط الشهيرة مقرّاً لها يشبه الفرع الأمني في مدخل السويداء الغربي، وغيّرت اسمها الفني ليصبح قوّات الفجر، لتقوم تارةً بأعمال الضابطة العدلية، وتارةً أخرى بأعمال المرتزقة الرخيصة، وكان آخرها مهاجمة حاجز صغير لجيش النظام القريب من مديرية النقل، على خلفيةٍ تنازعتها روايتان، الأولى عن اختفاء طالبة جامعية درزية في دمشق اتُهم الأمن لاحقاً باعتقالها!! والثانية عن اعتقال شاب درزي من عائلة القاسم في دمشق.

عصابةٌ كبيرة تخطف البلاد، وعصابةٌ صغيرة تخطف مجتمعها المحليّ، وعلى السويداء القريةِ الكبيرة التي يتوسطها سوقٌ تجاري صغير أن تُعيدَ تعريف علاقتها مع نظام بشار، وأن تكفَّ عن كونها مجرّد سوقٍ لجباية السيولة المالية، ولتصريف البطاريات والبنزين الحرّ والحشيش، كما تحتاج وفي آن إلى إعادة تعريف هويّتها الاجتماعية السياسية بعدما سمح النظام بحرية تجوّل الجريمة داخل الوعي الاجتماعي، وتجسّده بأشكال عديدة داخل الفعل الاجتماعي أيضاً، وهذا يتطابق حرفيّاً مع بنية النظام القائمة على عصابة تدير الحكم، ولا تخجل من أنّها عصابة.                  

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات