في الوقت الذي بدأ فيه الممثل الصيني "جاكي شان" تصوير فيلمه الجديد فوق أنقاض الحجر الأسود بريف دمشق، كان الممثل السوري "سلوم حداد" يخضع لكورس مضنٍ في اللغة الألمانية بعد استقراره هناك لاجئاً عافَ مسيرة التدمير والتهجير التي يخوضها نظام بشار بحفاوة لائقة منذ أحد عشر عاماً، الممثل الأول جذبه فخ الدمار في سوريا فجاء يصوّره، والممثل الثاني هرب من ذات الفخ، غير قادر على تصوّره مجدداً.
وزيارة أسماء زوجة بشار مؤخراً لقرية الفاخورة ذات الغالبية العلوية هي فخٌّ عاطفي لاصطياد مشاعر الناس هناك، وإلهائهم عن رؤية الكارثة التي يعيشون، مثلُها مثلُ الحاجز الجديد للفرقة الرابعة في منطقة “براغ” التي تفصل ريف السويداء عن ريف دمشق، وهو فخُ سرقةٍ جديد لفرض الإتاوات على حركة البضائع ونقلها. فخٌ عاطفي لسرقة المشاعر وتمرير الصمت، وآخر ماديّ لسرقة المال والسلع، تلك بعض الأفخاخ التي يبرع نظام بشار بنصبها على جميع الطرق المؤدية إلى بلاد الصمت التي يحكمها، هناك حيث دفن الناس أنفسهم مستمتعين، ونسُوا أن يموتوا!.
فخُّ الأب الكبيرُ
لعل إطباق بنية النظام السياسي السوري كفكرة حكم استبدادي على بنية الدولة كفكرة مؤسساتيّة مجرّدة عن الأهواء والميول، هو الفخ الأكبر الذي نصبه حافظ الأسد لاصطياد المجتمع وتفريغه من مساره الحي، فعل ذلك ببراعة متقنة طيلة ثلاثة عقود حكم فيها سوريا، وليست محاولة اغتياله في 26 حزيران/ يونيو 1980 هي ما جعلته يناصب العداء للمجتمع وللسياسة معاً، إذ كان يكفيه أن تقوم سلطته بمجزرة سجن تدمر البشعة في اليوم التالي لمحاولة اغتياله، والتي قضى فيها مئات المعتقلين من تنظيم الإخوان المسلمين، كأنه كان يخمّن معنى التطاول على استبداده ودلالات ذلك، ثم يضع ثمناً باهظاً للتجرؤ عليه.
تحولت الدولة في سوريا إذاً إلى دولة البعث أو دولة الحزب الواحد، وهذا توصيف سياسي لشكل الدولة الأمنية المتكيّفة مع استبداد السلطة، فلم تعد دولةً لكل السوريين، بل أصبحت دولةً فئويّة لا تعترف إلا بالمواطنة ضمن القياسات الدقيقة التي فصّل عليها حافظ الأسد صفةَ المواطن السوري، فجعله كل شخص ينتمي إلى حزب البعث طائعاً أو مرغماً، أو إلى أحد أحزاب الجبهة، ويمتثل إلى سياسية السلطة فلا يخالفها بالقول أو بالفعل، حائزاً على درجة متقدمة من غياب الوعي السياسي، وعاجزاً عن إجراء المقارنات العقلية البديهية أو الإتيان بها، وليست سوريا عنده إلا سوريا الأسد، وتلك فخاخٌ ضرورية سار الناس إليها مرغمين لإكمال سيرة تحوّلهم من نمط المواطن في بلد دستوري، إلى نمط المواطن في دولة البعث الأمنية، ثم تدريجياً وخلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، استطاع النظام القائم أن ينتج كتلةً بشرية ضخمة، صمّاء ومتجانسة، مسطّحة وغير متمايزة، مراقَبة ومحاصَرة، عاجزة عن الحراك السياسي أو حتى مجرّد تخيّله، خائفة ومثيرة للشفقة، صاروا عن غير قصد دجاجَ عمر أميرلاي في فيلمه الشهير، أو مدعوّين إلى "سيرك" تهريج دريد لحام عندما استرسل في كاسك يا وطن.
حين يتفوق الابن على أبيه!
ما فعله بشار كان أدهى من صناعة الفخاخ ودسّها تحت جلد البلاد، أو في مجرى دمها، لقد فخّخ البلد بالكامل، وجعلها لقمةً سهلة الانفجار، وأراد أن يكون جزءاً من الحل، بعدما كان هو كلَّ المشكلة. استقدم إيران وروسيا وجعلهما شركاءَ في بقائه حتى ولو كلّفه الأمر تطويبَ البلاد باسمهما وقد فعل، مقابل أن يظللاهُ بفيئهما وقد فعلا، ثم فخّخ المجتمع بالجريمة والمخدرات واشترى للناس فقدانَ الأمان، وفخّخ الليل بالعتمة، والشتاءَ بالبرد، وأطلق يد عصابته تنهب المال العام، وتصادر الشأن العام إلى جهةٍ لا ضميرَ فيها، فالناس الذين ثاروا عليه إما قتلهم أو هجّرهم، والذين لم يثوروا عليه بعد إما أذلّهم أو رجمهم، فهم فائضٌ لا حاجة لهُ بهم.
مؤخراً، جاء بايدن الذي ينسى غالباً الأسماء والصفات في زيارةٍ ملحميّة إلى المنطقة، وقد استرعى انتباههُ التمدد الإيراني، أين؟! ربما سأل محمد بن سلمان عن ذلك الأمر؟ في سوريا كان الجواب، والتي يمتلك فيها السيّد بايدن قواعدَ عسكرية فاعلة في الشمال، وقاعدة التنف في الجنوب. لا يهم، فسوريا ترحب بالجميع، منذ صارت فخّاً يتّسعُ للجميع، غداً أو بعد غد سيوبخ الإعلام الرسمي السوري الجميعَ، بدءاً من رئيس النظام الأميركي، مروراً بملك النظام السعودي، وصولاً إلى رئيس النظام التركي، ولن ينسى بالطبع توبيخ رئيس النظام الأوكراني لأنهم جميعاً لا يجيدون إحصاء الفخاخ المنصوبة، ولا يحسنون التكهّن بأماكن نصبها، فسوريا المفخّخة بالكامل صارت عبئاً على الجميع، منذ تركها الجميع تراوغ مصيرها المسموم بمفردها، وهذا جعل مَنْ فخّخها يعتقد بأنه فخّخ المنطقة بأسرها، وربما فعل ذلك من دون أن ينتبه أحد. فكم باتت كلفة نزع فتيل البلاد المفخخة قبل انفجارها الأخير دون أن يتكدّر مزاج أحد؟! وهل يستطيع السيد بايدن بالفعل تقدير تلك التكلفة بمفرده، مِنْ دون أن يساعده أحد؟!
التعليقات (3)