المثقفون السوريون حملوا صراعاتهم وقدّموا للنظام انقساماتٍ مجانية!

المثقفون السوريون حملوا صراعاتهم وقدّموا للنظام انقساماتٍ مجانية!

نجحَ نظامُ الحزب الواحد في سورية خلال عقود في تدجين غالبية الشعب السوري، وتطويع أكثرية الذين يُحسبون على الثقافة والأدب.

والأدوات الفاعلة لذاك النجاح، أجهزةٌ مخابراتية تسللت حتى إلى البيت السوري الواحد، وقسّمتْ أبناءه، ومناهجُ تربوية خضع لها السوري منذ المرحلة الابتدائية ليتم تلقينه مع ألف باء العلوم، أكذوبة الحاكم الذي سيبقى للأبد..

وكتبُ تاريخٍ كتبها شهودُ زور، لتؤسّس لذاكرةٍ جمعية تعطي النظام الحضور في الواقع والتاريخ والمستقبل.

كلّ هذا التأسيس لاعتقال النشأة الأولى وتوظيفها في بلاط الحاكم وهالةِ خلوده ، دعَمها إعلامٌ أحادي النظرية والرؤية والوجهة، فلم تُعطَ الحرية للصحافة، وبقي الشعب لعهودٍ ولا يزال مُسمَّراً أمام شاشة تلفزيونية وطنية واحدة، حتى اخترقتها الفضائيات حين انفتح الكون كله إعلامياً، ومع ذلك بقي السيد الغربال مصاحباً المقصّ الرقابي يلاحق نتاج الفضائيات، وصفحات المجلات والصحف العربية، يمزّق هنا، ويمنع هناك.

هذا الوضع الملتبِس أفرز مثقّفين يتبعون السلطة خوفاً من بطشها، ومثقّفين هم في الأساس يمتهنون التطبيل للحصول على مكاسب مادية واجتماعية.

وثمة آخرون لجؤوا للتسوية مع النظام، تحت ذريعة منحه الفرصة لإجراء إصلاحات، ومحاربة وهمية لفساد وفاسدين هم الحكم والخصم في آن.

ومن تبقّى التزم الصمت، لأن السلطة آنذاك ابتدعت وسائل للعقاب أهونها الاعتقال التعسفي والسجن مدى الحياة.

وكان رغم كل ذلك مثقفون حقيقيون التزموا الوقوف مع الناس، وقالوا كلمتهم، ودفعوا أثماناً باهظة، ولم يجلسوا على الحياد، يمارسون أضعف الإيمان.

حين قامت الثورة قبل سنوات، سقطت أوراق التين نهائياً عن سلطة ماعادت قادرة على إخفاء قبحها، وذهب المقص والغربال إلى العدم، حين خرج الناس إلى الشارع غير هيّابين المواجهة، يصرخون تعبيراً عن الرفض، وتأكيداً على الرغبة في التغيير.

وحين وُوجهت الثورة بالقمع التعسفي والقتل والإبادة، بدأت عمليات النزوح والهرب والهجرة ..

وكثيرون من أهل الثقافة والأدب والإعلام غادروا الوطن إلى منافٍ بديلة، خرجوا حانقين على نظامٍ أحرق الأخضر واليابس في بلدهم، خرجوا غاضبين ومصممين على الثأر ولو بأقلامهم ونتاجهم الابداعي ومواقفهم.

لكن الذي حصل فعلاً أن غالبية الذين خرجوا من سورية إلى بلدان النزوح، خمدت بعد وقت قصير غضبتُهم، وخفّت حِدّةُ خطابهم الثوري، واستمرؤوا الإقامة في مغتربات مريحة أغلب الأحيان، متاجرين بأنهم وقفوا في وجه الطاغية في البداية، ثم صامتين متابعين لحياتهم وكأن شيئاً لم يحدث هناك.

والمؤسف أن غالبية الذين خرجوا حملوا معهم عقدة الخوف من الجلاد والمخابرات، وكذلك عقدة الاستزلام والخوف اللامبرر رغم أنهم نأوا فعلياً عن أنشوطة الحاكم.

غالبية المثقفين السوريين اليوم في الخارج ينحازون إلى عصبياتٍ مختلفة لا تشبه أبداً التعصب لسورية الواحدة وأهلها..

فالمثقفون الأكراد على سبيل المثال أقاموا تجمعاتهم الخاصة في المغتربات، يقومون بأنشطتهم ويتابعون النضال لا من أجل سورية، بل من أجل اقتطاع جزء منها تحت يافطة كردستان، والمثقفون الأصوليون حملوا تزمّتهم وبدؤوا يحاربون في المغتربات المثقفين العلمانيين، والعلمانيون يقابلونهم بالمثل..

الحرب التي اشتعلت في الداخل نقلها أهل الثقافة إلى الخارج، يتعاملون بنظريات التخوين، وحتى الإلغاء والاغتيال الإنساني والمحاصرة كي لا يتنفّس مثقف لا ينتمي إلى الفئة عينها..

وهم بذلك يقدّمون للنظام المرتاح في الوطن الخدمات التي يريد ويشتهي، يقدّمون له انقسامات يسعى إليها وبشكلٍ مجاني، تضمن له ألّا يكون للمعارضة صوتها المثقف الواحد، ولا شعراؤها المتّحدون على قضية تساوي الحياة بأسرها ولا روائيّوها وإعلاميّوها..

الغالبية تناست الهدف، تناست العدو، وانشغلت ببناء أمجاد لها، وعداوات في الخارج.

يفعلون كل هذا، وكل فئة تعتبر أنها على حق، وأنها المستقبل البديل لوطنٍ يُحتضر، وكان الأجدر لو اتفق أهل الثقافة والمعرفة على أولوياتٍ حقيقية، ثم فليفعلوا مايشاؤون بعد تحقيقها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات