جاء حين من الدهر كانت الجريدة والمجلة والكتاب هي الأدوات الوحيدة للتعبير عن الأفكار بعامة، وعن الاختلاف في زوايا الرؤية حول قضايا فكرية وأدبية وفلسفية، وكان كُتّاب الجريدة والمجلة والكتاب ينتمون إلى النخبة الثقافية، على اختلاف ألوانها ومعتقداتها وأهدافها.
فما إن صدر كتاب (في الشعر الجاهلي) لطه حسين حتى انبرى عدد من المختلفين معه لدحض أطاريحه في هذا الكتاب، فقد كتب محمد الخضر الحسين التونسي الأزهري الذي عاش في مصر "نقض كتاب في الشعر الجاهلي" عام 1926 وهكذا.
وتمر السنون ويقدم العلم للبشر بكل أنواعهم وسائل تعبير متعددة وسهلة الاستخدام، فإذا بالنت يقضي على احتكار النخبة للكتابة، وصارت الكتابة أداة لكل أشكال التعبير من أدناها إلى أعلاها.
وغاب مفهوم نقد النخبة للنخبة، وصار شجار الرعاع مع النخبة طقساً من طقوس تدنيس الكتابة. فالمنتمون إلى طرح زوايا الرؤية الجديدة حول الفكر والتاريخ والسياسة بوصفهم فاعلين ثقافيين وجدوا أنفسهم أمام حشود من الرعاع بكل أوساخهم، وتأنف شيم النخبة الانحدار إلى المستنقع. فلما كانت الفلسفة مبحثاً نبيلاً وتطرح ما ليس بمقدور العقل الوارث للأساطير والخرافات تحمله فإنها، كما هي العادة، تواجه غضب الجهل المقدس، ولأن الفيلسوف حر في التعبير عن عقله النبيل، فإنه عقل جسور لا يكترث بردود فعل ليست من طبيعة الفلسفة.
الحرّية نفسها ما كان لها أن تحتلّ مكانتها في تاريخ البشر لولا نبل الفلسفة. الفلسفة بوصفها نبيلةً، لا تجامل التاريخ ولا ذوات التاريخ ولا سرّاق التاريخ.
لقد كتبت مقالًا بعنوان "ضرورة الفلسفة". وقلنا: غياب الفلسفة في تشكيل آلية التفكير حرمانٌ للعقل من أحد أهم منابع تعزيز قدرته على التحليل والتركيب والفهم. الفلسفة فن التفكير، هي فن الفهم للواقع، فن اكتشاف السؤال الحقيقي، وكل ذلك على أساس مناهج التفكير العامة التي صاغتها الفلسفة وتصوغها. الفلسفة تعلمنا كيف نقرأ التاريخ، والظاهرة في تاريخيتها، وما المنهج التاريخي إلا البحث عن العوامل الفاعلة الموضوعية والذاتية وترابطها ما خلق هذه الظاهرة أو تلك. الفلسفة تكشف عن بنية الظواهر ووظيفة كل عنصر فاعل في البنية، وتجعل من المنهج البنيوي وسيلة لفهم نشأة البنى الاجتماعية والسياسية والأخلاقية وتحولاتها وموتها، وهكذا. والفلسفة لا تنفصل عن المنطق الذي يجعل من التفكير عقلياً، إنه أي المنطق، عاصم من ارتكاب الأخطاء ولولا التفكير المنطقي لما كان هناك تفاهم بين الناس. الفلسفة تبحث في القيم والأخلاق وتطرح كيفية الوصول إلى ضمير أخلاقي يحفظ حياة الإنسان الروحية والمادية، والفلسفة تنمي الفهم الجمالي والحس الفني والذوق الأدبي وكل ذلك يسهم في سمو الإنسان ورقيّه.
إن الفلسفة بهذه الوظيفة المعرفية والمنطقية والأخلاقية والجمالية يجب أن تكون جزءاً لا يتجزأ من عملية تكوين الفرد، بوصفها، كما قلنا، فن التفكير. إن مهمة الفيلسوف الآن عظيمة، إن خطاب الحرية المؤسس فلسفياً هو الذي يضيء العقل، بل هو التنوير بحد ذاته. فالربيع العربي بلا فلسفة ربيع فقير، ولهذا كتبت عن نبل الفلسفة، وعن ضرورة الفلسفة، وعن الفلسفة والأيديولوجيا، ليس دفاعاً عن الفلسفة بحد ذاتها فقط، بل دفاعاً عن العقل الضروري لامتلاك العالم المعيش، عن حق العقل في تعلم علم التفكير.
التعليقات (3)