السوريون بين حسابات السرايا وحسابات القرايا

السوريون بين حسابات السرايا وحسابات القرايا

جغرافية سوريا ومعنى اسمها:

تبلغ مساحة سوريا بحدودها الرَّاهنة 185180 كم مربَّع، وتتميَّز بغطاء نباتيٍّ متنوِّع، ولديها ثروات حيوانيَّة وطبيعيَّة جيَّدة، ناهيك عن مناخها المعتدل، وبيئاتها وتضاريسها المتنوِّعة، كالسَّواحل البحريَّة والسُّهول السَّاحليَّة المطلَّة على البحر الأبيض المتوسِّط والجبال والسُّهول الدَّاخليَّة بأنهارها العذبة، ولديها بادية الشَّام، التي تربطها بالجزيرة الفراتيَّة وبوادي العراق وشبه الجزيرة العربيَّة، والغالب أنَّ الجذر اللُّغويِّ لاسم سوريا الرَّاهن يرجع إلى اللُّغة الآراميَّة وفروعها الآشوريَّة والسِّريانيَّة. وقد كان السَّلوقيُّون من خلفاء الإسكندر المقدونيِّ على زعامة سوريا أوَّل من أطلق على هذه البقعة الجغرافيَّة اسم سوريا أو آشوريا في دلالة واضحة على آشوريِّي العراق وبلاد الرَّافدين، الَّذين كانوا يطلقون بدورهم على سكَّان سوريا اسم (Arbo)، أو (عربو)، ويعنون بهم سكَّان الغرب، أو سكَّان البوادي غرب بلاد آشوريا وبلاد ما بين النَّهرين.

لا يشكِّل الآشوريُّون ولا السِّريان غالبيَّة عظمى بين سُكَّان سوريا الرَّاهنة، ولم يختر السُّوريُّون هذا الاسم لدولتهم الحديثة النَّاشئة بعد استقلالها عند الدَّولة العثمانيَّة في الثَّامن من آذار 1920.م بُعيد الحرب العالميَّة الأولى، وإنَّما جاء اسم (الجمهوريَّة السُّوريَّة) بعد استقلال سوريا عن فرنسا في السَّابع عشر من نيسان 1946.م، ولا يخفى على المتابع دور فرنسا في تسمية هذه البقعة الجغرافيَّة، الَّتي غنمتها أو كانت حصَّتها بعد الحرب العالميَّة الأولى في إحياء للإرث السُّلوقيِّ حين أطلق السَّلوقيُّون من خلفاء الإسكندر المقدونيِّ على أنفسهم لقب ملوك سوريا، وقد كانت فرنسا وما زالت قادرة على تكريس هذه الأسماء في مناطق نفوذها في سوريا ولبنان بوصفها دولة من الدُّول الظَّافرة بالحرب العالميَّة الأولى، ومن حقِّها-من وجهة نظرها ونظر حلفائها الأمريكان والإنكليز-أن تمارس نفوذها على الأرض الَّتي غنمتها، وهكذا يبدو لنا أنَّ السُّوريِّين لم يكن لهم يدٌ في اختيار اسم دولتهم النَّاشئة، ولم تطبق معهم حسابات القرايا على على حسابات السَّرايا لا قبل الحرب العالميَّة الأولى ولا بعدها، وربَّما لم تتوافق حسابات قراياهم مع حسابات السَّرايا ولو ليوم واحد في التَّاريخ.

قرايا السُّوريِّين بين سرايا الفراعنة والأكديِّين:

(حسابات السَّرايا لا تطبق على حسابات القرايا) مثل شعبيٌّ يستخدمه السُّوريُّون للدَّلالة على سوء الحظِّ، الَّذي يعاندهم دومًا، ويأتي دون مستوى طموحاتهم وآمالهم، ومعظم السُّوريِّين من سكَّان (القُرى الزِّراعيَّة أو القرايا)، الَّتي يعمل سُكَّانها بالزِّراعة، وَيَشْقَوْنَ عامًا كاملًا، ويجنون المحاصيل، ويبيعونها، ثمَّ يذهبون في نهاية الصَّيف إلى (سرايا المدينة) أو قصورها محمَّلين بثمن محاصيلهم، وقد توقَّعوا أن يشتروا بها نصف المدينة؛ ليُزوِّجوا أبناءهم، ويفرشوا بيوتهم، وينعموا بلذَّة الكسب الحلال، فإذا بهم يتفاجؤون بغلاء الأسعار في سرايا المدينة أو قصورها؛ ليعلنوا بعد ذلك خيبتهم، ويلعنوها؛ لأنَّ حسابات السَّرايا وغلاء الأسعار في المدينة لم تتطابق مع حساباتهم في القرايا، وحالت دون تحقيق المطامح والآمال، وهم يشبهون ذلك الرَّاعي، الَّذي راح يتأمَّل جرَّة العسل حين جلس بقربها، وسرح خياله، وراح يحلم ببيعها وشراء مجموعة من الشِّياه، الَّتي ستنجب له قطيعًا من الماشية، ثمَّ سيبيعه، ويشتري أرضًا وبيوتًا، وحين نهض من حلم يقظته أصابت عكَّازته جرَّة العسل؛ فكسرها، وسال حلم يقظته على الأرض، وعاد يرعى أغنامه كئيبًا.

حكاية السُّوريِّين بين السَّرايا والقرايا حكاية قديمة، فموقع سوريا الاستراتيجيِّ بين قارَّات العالم الثَّلاث (آسيا، وأفريقيا، وأوربَّا) جعلها محطَّ أنظار الطَّامعين بها، من دول الاستعمار الحديث، وقد تصارع على سوريا فراعنة مصر وملوك بلاد الرَّافدين ردحًا طويلًا من الزَّمن، وكان على سكَّان سوريا الكبرى أو سوريا الطَّبيعيَّة الممتدَّة من غزَّة وأطراف شبه الجزيرة العربيَّة إلى أطراف جبال طوروس وزاغروس أن يقاتلوا (الفراعنة والأكديِّين)؛ أعظم إمبراطوريِّتين في العصر القديم لو أرادوا الاستقلال بدولتهم عنهما، وتروي الأخبار التَّاريخيَّة أنَّ الفراعنة استمالوا سُكَّان سوريا الطَّبيعيَّة إلى صفِّهم؛ فأعطوهم حرَّيَّة اللُّغة والمعتقد؛ فغزا نارام سين البابليُّ أهمَّ الحواضر السُّوريَّة في ماري وإيبلا، وأحرق مكتبتيهما؛ وبرغم عدم تطابق حسابات الاستقلال في قرايا السُّوريِّين مع حسابات سرايا ملوك بلاد الرَّافدين، الَّذين أحرقوا مكاتب ماري وإيبلا، فقد تفخَّرت رُقم الطِّين، ومات الطَّامعون بسوريا، وشمخت الحضارة، وظلَّت شاهدة على عراقة أجدادنا.

قرايا السُّوريِّين بين الفرس والرُّوم وقوى الشَّرق والغرب المتناحرة:

عانى سكَّان القرى السُّوريَّة من صراع الفرس والرُّوم حتَّى مات الإسكندر المقدونيُّ، وخلفه السَّلوقيِّون، ولم تتوافق حسابات قُراهم أو قراياهم مع حسابات سرايا ملوك الغساسنة والمناذرة المتصارعين على سوريا، ومع ذلك بقيت مُدن سوريا وقراها شاهدة على الحضارة العريقة حتَّى اختار الأمويُّون دمشق عاصة لهم بعد الفتح الإسلاميِّ؛ ليُعاني مجدَّدًا سُكَّان الثُّغور السُّوريَّة من صراع طويل بين مجموعة كبيرة من القوى المتناحرة على القرى السُّوريَّة ذاتها؛ كالفرس والصَّليبيِّين البيزنطيِّين والسَّلاجقة والفاطميِّين، فكانت حلب ودمشق من أبرز الحواضر الَّتي عانى أهلها وقراها من تأجّج هذا الصِّراع.

استقلال سوريا بين حسابات السُّوريِّين وحسابات الدُّول العظمى في العصر الحديث:

بُعيد نهاية الحرب العالميَّة الأولى أعلن السُّوريُّون استقلال دولتهم عن الدَّولة العثمانيَّة في الثَّامن من آذار 1920.م من قبل المؤتمر السُّوريِّ العامِّ؛ فرفضت فرنسا الاستقلال؛ لأنَّ حسابات قرايا السُّوريِّين لم تتوافق مع حسابات سرايا سايكس وبيكو في إنكلترا وفرنسا؛ لتخضع سوريا للاحتلال الفرنسيِّ، الَّذي جلا عنها في السَّابع عشر من نيسان 1946.م، ومع ذلك لم تأخذ الدَّولة السُّوريَّة اسمها إلَّا بعد موافقة الفرنسيِّين، الَّذين ظلُّوا يدعمون القوى المرتبط بهم بعد جلائهم؛ حتَّى أوصلوا حزب البعث لحكم سوريا في الثَّامن من آذار 1963.م، ثمَّ اعترف الفرنسيُّون وغيرهم بانقلاب حافظ أسد في السَّادس عشر من تشرين الثَّاني 1970.م، وراح كثيرٌ من السُّوريِّين يصفِّقون لشعارات حزب البعث الخُلَّبيَّة حول وحدة الوطن العربيِّ وحرِّيَّته واشتراكيَّته في الوقت الَّذي نكَّل به حافظ الأسد بالفلسطينيِّين في تلَّ الزَّعتر، وضرب المقاومتين: اللُّبنانيَّة والفلسطينيَّة، وقضى على كلِّ خطوة وحدويَّة حقَّة، وخذل العرب المتحالفين معه في حرب تشرين حين سلَّم الجولان والقنيطرة لإسرائيل، وراح مرتزقته يكتبون عن حرب استنزاف مرَّة، ويعرضون تمثيليَّات المقاومة مرَّة أخرى، وهكذا خذلت السُّوريِّين حسابات القرايا في لحظات الانتصار الوهميَّة، في كلٍّ من حرب تشرين 1970.م وفي حرب تمُّوز 2006.م، وبدل حصول السُّوريِّين على حرِّيَّتهم قبل حرب تمُّوز أو بعدها مرَّ توريث بشَّار الأسد ووصوله إلى حُكم سوريا من أبيه في خَدَرٍ وغياب وعيٍ كبيرين؛ كما تمرُّ جراح المريض النَّازفة قبل العمليَّة الجراحيَّة في جلسة التَّخدير.

ثورة آذار ضدِّ المجرم بشَّار وحسابات السَّرايا والقرايا:

لم يستفق السُّوريُّون على جراح قراهم النَّازفة وحساباتها غير المتطابقة مع حسابات عصابة آل الأسد في القرداحة وكراسي قصورهم هنا وهناك حتَّى أمر المجرم بشَّار الأسد طيَّاريه بقصف أهالي القرايا الطَّامحين بالحرِّيَّة، وراح مرتزقته يلقون البراميل المتفجِّرة على البيوت والمدارس ودور العبادة وساحات التَّظاهر؛ وإن تكن حرائق نارام سين قد خلَّدت رُقم ماري وإيبلا فإنَّ براميل المجرم بشَّار الأسد لم تُراعِ حرمة بيت أو مدرسة أو دار عبادة، وقصفت البشر والحيوانات والشَّجر والحجر، وهكذا وجد الطَّامعون بموقع سوريا وخيراتها في المجرم بشَّار الأسد أفضل رئيس عصابة وقائد ميليشيا، يدمِّر كلَّ شيء من أجل الحفاظ على كرسيِّه، ولم تكتفِ عائلة الأسد بتقديم نفسها جماعة وظيفيَّة مجرمة لرعاية مصالح المستفيدين من دمار سوريا هنا وهناك، بل حوَّل هذه الجماعة الوظيفيَّة المجرمة شريحةً كبيرة من السُّوريِّين الدَّائرين في فلكه خوفًا أو يأسًا إلى عناصر في جماعته الوظيفيَّة، لا يخدمون وطنهم، وإنَّما يحرقون أولادهم ومستقبلهم كرمى مصالح بشَّار الأسد الشَّخصيَّة، لا لأجل سوريا الممزَّقة ذاتها، وهكذا، وهكذا، ظلَّ السُّوريُّون يحلمون بالحرِّيَّة، ويحسبون حساباتها في قراياهم، وظلَّت سرايا المجرمين تخذلهم على الدَّوام، لكنَّ اشتداد اللَّيل خير دليل على قرب زواله وزوال المجرمين بحسب محمود درويش حين قال:

يا دامي العينين والكفَّين إنَّ اللَّيلَ زائل

لا غرفة التَّوقيف باقية ولا زُردُ السَّلاسل

نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تُقاتل

وحبوب سنبلة تجفُّ ستملأ الوادي سنابل.

 

التعليقات (2)

    Dr. Mohammed Said

    ·منذ سنة 7 أشهر
    Super.

    د. عبدالرزاق حاج مصط

    ·منذ سنة 7 أشهر
    أحسنت دكتور مهنا تشبيه تاريخي وسياسي في قوالب ضمنية وفي مقابلة أسلوب الحكيم بلاغياً
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات