روسيا هُزمت والتداعيات قادمة

روسيا هُزمت والتداعيات قادمة

يقال إن الأنظمة الديكتاتورية بفضل حزمها وشدتها وقدرتها على تسخير طاقات الأمة ومواردها تستطيع أن تنهض بالبلاد بفترة وجيزة، ومن الأمثلة التي يسوقها أصحاب هذه المقولة؛ النهضة السريعة التي قادها "هتلر" و"موسوليني" في كل من ألمانيا وإيطاليا. للوهلة الأولى قد يبدو المثال سليما، لكن النهاية الوخيمة لكلا الدكتاتورين ولما شيداه؛ تجعل المقولة الأكثر دقة هي: عندما يتجه الديكتاتور نحو البناء؛ فاعلم أنه لن يغادر هذه الحياة، ولن يهنأ له بال قبل أن يهدم ما شيده. واليوم يثبت "بوتين" أن هذه المقولة هي أقرب إلى قانون حتمي لا يمكن تجاوزه، فها هو يعيد روسيا عشرات السنوات إلى الخلف بعد أن دفعه جنون العظمة إلى تحدي العالم بغزوه لأوكرانيا.

البحث عن نصر وهمي

منذ أيام أعلن "بوتين" التعبئة التي أسماها "جزئية"؛ معلنا بذلك فشل "العملية الخاصة" ملوحا بالحرب هذه المرة، ولكن رغم ذلك، فأهداف الحرب التي يخطط لها "بوتين" تبدو متواضعة إذا ما قورنت بأهداف العملية الخاصة، حيث كانت الأمنيات وقتها تحمل في ثناياها الكثير من الغطرسة؛ فمن إزاحة النازيين الجدد، إلى جعل أوكرانيا دولة منزوعة السلاح وإعلان حيادها، إلى قلب نظام الحكم، وغير ذلك من أهداف ذات سقف مرتفع. بينما اليوم؛ يبحث بوتين عن ضم أربع مقاطعات مجاورة لروسيا هي: "لوغانسك" و"دونيتسك" و"زابوروجيا" و"خيرسون". وبالتالي، هو سيعتبر هذه الأقاليم أصبحت أراضي روسية، وكان "بوتين" قد لمح سابقا إلى أن الاعتداء على الأراضي الروسية له قواعد اشتباك مختلفة، فروسيا قد تستخدم السلاح النووي إن هي اضطرت لذلك. بالمختصر؛ "بوتين" يبحث عن نصر وهمي يحفظ به ماء وجهه.

القرار بيد الغرب

بالرغم من كل الصياح والتهديد الروسي، إلا أن القرار بمنح "بوتين" نصرا محدودا يحفظ به ماء وجهه هو بيد الغرب لا بيد "بوتين"، فالثلاثمائة ألف جندي الذين سيضيفهم "بوتين" إلى عداد قواته في أوكرانيا لا يمكنهم إحداث الفارق، لأن الأعداد وحدها لا تكفي، ولأن هؤلاء يتم سوقهم كالنعاج التي تمانع الذبح، فهم يجيدون الركض نحو الخلف أكثر مما يجيدون الهجوم. أما استخدام أسلحة أكثر تطورا فهو خيار مستبعد، لأن المخزون الإستراتيجي الروسي من هذه الأسلحة محدود، وهم إن استهلكوا هذه الأسلحة سيجدون صعوبة في تعويضها لارتفاع تكلفة تصنيعها ولأن العقوبات الغربية قد طالت تلك الصناعات التي تعتمد بشكل كبير على أجهزة وقطع حساسة مستوردة من الدول المتقدمة تكنولوجيا. من جهة أخرى، لا يمكن لروسيا استخدام السلاح النووي، فقرار بهذا الحجم لا يمكن اتخاذه بهذه البساطة التي يتصورها البعض، و"بوتين" يعلم جيدا أن استخدام السلاح النووي في الحرب الأوكرانية لن يمر مرور الكرام، وأنه سيغضب الصديق قبل العدو، وربما يعلم أو لا يعلم أن أوامر من هذا النوع قد توحد القيادة الروسية في الدوائر الضيقة حول فكرة أن الرئيس فقد عقله وحان وقت عزله. إذن، كل ما يفعله "بوتين" هو الذهاب نحو حافة الهاوية على أمل أن يتكرم عليه الغرب بما يحفظ به ماء وجهه.

روسيا بلا حلفاء

رغم بعض التصريحات الداعمة أو التي تدعي تفهمها للسلوك الروسي لا يمكن اعتبار تلك الدول التي أطلقت هذا النوع من التصريحات أنها دول متحالفة مع روسيا في حربها مع الغرب في أوكرانيا، بل على العكس تماما؛ إذ تعتبر تلك الدول قوى ضغط على روسيا لإنهاء الحرب، فالدول الوازنة التي تصنف على أنها في صف روسيا ما فتئت تعبر عن مخاوفها من تداعيات هذه الحرب،  فمنذ أيام بعد أن التقى "بوتين" بقيادات كل من الصين والهند في قمة "شنغهاي" سمع كلاما لا يروق له، فهو خرج بعد لقائه بالصينيين بقوله: أنا متفهم للمخاوف الصينية وقلقهم من الحرب الأوكرانية، فيما سمع من رئيس الوزراء الهندي قوله: إن هذا ليس وقت حرب. 

النهاية الأرجح للحرب

إذن، ما بين صديق يدفع لإنهاء الحرب وعدو (الغرب) لديه عرف راسخ بأنه ليس من الصواب إذلال القوى العظمى، ودكتاتور بدأ يستشعر حجم المأزق الذي وضع نفسه به؛ قد يكون الحل قاب قوسين أو أدنى، وهو حل سيذكر بما يعرف تاريخيا بـ"حرب الشتاء" عام 1939 بين الاتحاد السوفيتي وفنلندا الدولة الصغير والتي انتهت بعد توقيع معاهدة موسكو للسلام تنازلت فنلندا بموجبها عن 9% من أراضيها إلى الاتحاد السوفيتي. لكن خسائر الجيش السوفييتي البشرية وصلت في هذه الحرب إلى ما يتراوح بين 70 إلى 170 ألفا حسب التقديرات المختلفة، وهو ما يعني أن الجيش السوفيتي زُجّ في مذبحة من أجل الحصول على النصر، لكنه نصر بطعم الهزيمة، فقد كانت الخسائر السوفيتية فادحة. وقد كان من تداعيات تلك الحرب أن تضررت سمعة البلاد الدولية، وطردت من عصبة الأمم، وتشجعت ألمانيا على غزو الاتحاد السوفيتي بعد أن اكتشفت ضعف جيشه. بينما احتفظت فنلندا بسيادتها وعززت سمعتها الدولية. 

في المقابل يبقى احتمال التصعيد واردا، فالغرب على ما يبدو قد أصبح ينظر إلى "بوتين" كزعيم يهدد الأمن والسلم الدولي، وهو لم يعد جديرا بالثقة. لذلك، فإن كان مؤشرات سقوطه قوية؛ فإن الضغط سوف يستمر. 

حتى اليوم ما زال الكثيرون متأثرون بالدعاية الروسية ولا يوجد من يتجرأ على القول إن روسيا هزمت، إلا أنه مهما تكن النتائج، فاليوم لا يمكن الحديث إلا عن دكتاتور خرب ما بناه، وعن روسيا التي خسرت الكثير وأُثقل كاهلها بمزيد من العقوبات، روسيا شبه المعزولة، روسيا التي هُزمت بانتظار التداعيات المفتوحة على الكثير من الاحتمالات. وليس الإطاحة ببوتين أو تفكك روسيا خارج تلك الاحتمالات.  

التعليقات (4)

    عامر درويش

    ·منذ سنة 7 أشهر
    المقال جميل جدا

    لمنع الناتو في

    ·منذ سنة 7 أشهر
    اوكرانيا.... جلبه إلى السويد و فنلندا... بوط..ين... جحشون... ابن مؤسسة عسكرية عفنة متداعية... يؤمن أن السلاح لوحده كفيل بصنع أمجاد و احلام إمبراطورية Hani Al

    أنس زين الدين

    ·منذ سنة 7 أشهر
    كلام بمنتهى الدقة . مقال رائع جداً ، وهو من أجمل ما كتبت أستاذ مصطفى .

    سوري مُشرد

    ·منذ سنة 7 أشهر
    نأمل رحيل هذا الدكتاتور الدموي بوتن و بالتالي يلحق به بشار المجرم كلاهما إلى مزبلة التاريخ.
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات