والكل هُنا جيران

والكل هُنا جيران

لا أعرف من استخدم كلمة "الشعبية" أو "الشعبي" كصفة أو خبر لصياغة مصطلحات غير مفهومة بل وغبيّة مثل: الطعام الشعبي، الأحياء الشعبية، المشروب الشعبي، الحلويات الشعبية، عرس شعبي، ملابس شعبية، حيّ شعبي، وحتّى الحدائق والمساكن والأسواق والأذواق الشعبية.. وهلمّ جرّا. 

هل كان من استخدم هذه المُصطَلحات ماركسياً أو شيوعياً أو اشتراكياً مثلاً فرأى أنّ الدنيا برمّتها شعبية أو خالصة للشعب، والسؤال هنا إذاً أو التساؤل: طيّب إنِ اعتبرتَ الناس شعباً أو شُعوباً فَلِمَ الإصرار على توضيح ما هو واضح أو التركيز على تصنيف ما هو مصنّف، أوَ ليس الجميع كذلك؟، أم كان من استخدمه رأسمالياً إمبريالياً ليبرالياً فوجد أنّ العالم جزءان أحدهما شعبي والآخر لا؟، حسناً.. السؤال الآن إذاً: ما الذي ليس شعبياً في منطق هذه الرؤية؟، ما المقصود بالأحياء الشعبية مثلاً؟، بل بالضبط: لماذا أسميت أو أطلِقت عليها هذه العبارة أو "المُصطَلَح"؟، أَهي مسألة تتعلّق بالغنى أو الفقر والتمايز على هذا الأساس؟، أم مسألة تصنيف عرقي مثلاً أو قومي أم ديني، أم مسألة اختلاف في الأفكار والرؤى؟. 

ماذا يعني وهذا سؤال مباشر: أن يُقال: (ذهب عامر إلى السوق الشعبي ليشتري لابنه حذاءً رخيصاً)، أو: (تسكن ليلى مع أمّها في حيّ شعبي الإيجارات فيه رخيصة)، أو: (ذهبنا إلى مطعم رخيص في السوق الشعبي)، ماذا يعني؟، الشعبي رخيص؟ أم الشعب هو الرخيص؟، أم ماذا؟، طيّب.. سؤال آخر أكثر دقّة وتركيزاً: من لا يذهبون إلى الأسواق والمحالّ الشعبية، ولا يسكنون في الحارات والأحياء الشعبية، ولا يأكلون ويشربون في المطاعم والمقاهي الشعبية، ليسوا من الشعب يعني، من هم إذاً؟. 

هذا أدنى أشكال "العنصرية" التي عرفها "البشر" ومارسوها بكلّ فظاظة وغلاظة وأقدمها، وهو التمييز بين الفقير والغني، وقبل أن يكون للثروة أو الثراء معنىً يُدرَك بين العاجز والقادر، وأجزم وبالتأكيد أنّ "العنصرية" قد نشأت منذ جارَ إنسان صحيح البُنية على إنسان ضعيف البُنية فاستخدمه واستغلّه، وصار القويّ غنيّاً والضعيف فقيراً، ولم يكن هنالك ما هو شعبي وما هو ليس شعبياً، إذ لم يكن ثمّة شعوب أصلاً. 

مع تكوّن وتطوّر الشعوب، الأمم والقوميات، الأديان والإيديولوجيات، واختلاف المسالك والمذاهب والمشارب، لم تعد مسألة الغنى والفقر أو حالة القوّة والضعف عند البشر السبب الوحيد الذي كان رائجاً ودافعاً لـ "ممارسة العنصرية"، فصار للعنصرية أشكال وفروع، عنصرية بسبب اختلاف الأعراق، عنصرية بسبب اختلاف الأديان، عنصرية بسبب اللون، بسبب نوع الجنس، بسبب الشكل، بسبب الإعاقة، بسبب وسبب وأسباب.

قال "نيلسون مانديلا": (لا يولَد إنسان كارهاً لإنسان آخر مثله بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه، لكنّ الناس تعلّمت الكراهية تعليماً، وما دامت قد تعلّمت الكراهية فبالإمكان أكثر أن تتعلّم المحبّة، لأنّ المحبّة أقرب إلى قلوب الناس). 

في الحقيقة صحيح ومنطقي وواضح، ما الذي يدفع شخصاً لكراهية شخص آخر والاثنان بشر، كلاهما بشر؟، والسؤال هو: كيف ولماذا تعلّمت الناس الكراهية "تعليماً"، هل بسبب اختلاف أجناسها وعقائدها وقوميّاتها وأيديولوجياتها وأشكالها وألوانها، أم بسبب علل فكرية ونفسية وأخلاقية تراكمت؟، هذا ما يمكن فهمه في الحقيقة، وهو بالضبط ما قصده "مانديلا" دون أن يُشير إلى أسبابه التي يعلمها الجميع، عُقد وظروف تاريخية مُتوارثة أجّجتها الحروب والنزاعات والصراع لأجل السيطرة أو البقاء، ثمّ الشعور بالتميّز والتفوّق على الآخرين، دون أيّ مبرّر مُعتبر أو مفهوم. 

وإن كان من الممكن تفسير اعتبارات العنصرية السافلة التي يمارسه اليمين المتطرّف في أوروبا وغيرها مثلاً بمبرّرات اختلاف الأعراق أو حتّى نظرية النازية المُجرمة بتفوّق العرق الآري، أو تفسير اعتبارات العنصرية السافلة التي يمارسها اليهود لاعتبارات دنيئة بسبّة "العهد القديم"، أو ما يمارسه الصينيون ضدّ "الأويغور" لاعتبارات إيديولوجية شيوعية وضيعة، أو ما يدفع البيض للعنصرية تجاه السود لاعتبارات اللون السخيفة، أو طوال القامة ضدّ قصار القامة لاعتبارات الشكل البشعة، أو أيّ أمثلة أُخرى خرقاء وحقيرة، لكن.. كيف يمكن تفسير عنصرية بعض الأتراك واللبنانيين تجاه السوريين مثلاً؟.

من يمشي في أيّ شارع في العراق وسوريا وإيران وتركيا والأردّن وفلسطين ولبنان ويتفرّج فُرجةً على الناس دون أن يسمع مناطق ألسنتهم لن يستطيع التمييز بينهم، أو إن زار البيوت في المدن والقُرى فلن يحزر اسم الدولة التي يزور بيوتها، ولن يعرف إذا دخل مطعماً مُحكماً أو فندقاً مُغلقاً أين هو بالتحديد، وسيرى العيون العسلية والسوداء والزرقاء في كلّ مكان، والقصار والطوال، والشُقر والبيض والسُمر، وعلى وجه التحديد لن يستطيع أحد أن يحدّد هل هذه المرأة إيرانية أم سورية أم تركية أم أردنية أو لبنانية؟، كلّهن وكلّنا من أعراق مختلطة، وفوق كلّ ذلك سيُسمع في كلّ مكان من هذه الأماكن وبعيداً عن اللغات واللهجات شيئان مُتشابهان مُشتركان ومُنتشران: الموسيقا والأذان!. 

نعم.. لا تفسير أبداً للعنصرية بين هذه الشعوب تحديداً، نفس التاريخ، نفس الطباع، نفس الديانات، نفس الملابس، نفس المقاهي، نفس العادات، نفس المطابخ، نفس الأذواق، نفس العصبية، ونفس الأشكال والمشاكل!.

لكنّها "العنصرية" بسبب اللجوء ما يتعرّض له السوريون اليوم، هكذا.. شكل جديد مستجدّ من أشكال العنصرية، العنصرية التي يمارسها ضدّك الآخرون لأنّك لاجئ فقط أو فحسب!، لا مبرّر آخر ولا منطق يفسّر هذه الحالات التي تحوّلت إلى "ظاهرة" سوى ذلك، العنصرية بسبب ضعفك، العنصرية بسبب خوفك، العنصرية بسبب التشرّد والتشتّت والتشرذم واللجوء، وإلّا: متى كان السوري عنصراً أقلّ قيمة من التركي واللبناني؟، وبالتحديد: ماذا لدى التركي أو اللبناني مِثالاً ما هو ليس لدى السوري؟، اللون أم العرق أم الدين أم الشكل أم الذكاء أم اللغة، أم ماذا؟، و"شعبياً" هذا هو السؤال: (من وين لوين يعني؟).  

شيء غريب بالفعل، وحالة تعيد التفكير بمسألة القوّة والضعفّ، المسألة الأولى التي أنتجت "العنصرية" في العالم، والتي فرّعت لمصطلح ما هو "شعبي"، رغم أنّ هذه الكلمة تعني نسبة الناس إلى شعب وليس إلى فئة فقيرة أو مهمّشة منه أو أيّة فئة مهما كان أو كانت، أمر مقزّز وحقير، كلّنا ناس يا بشر، كلّنا بشر يا ناس!. 

أشاهد وابنتي مسلسل الرسوم المتحرّكة اللطيف "حكايات عالمية"، وما أجمل صور الشاشة وألحان أغنية الشارة ثمّ وما أحلى كلماتها: من كلّ بلاد الدنيا من كلّ بقاع الأرض.. قصص شتّى تُروى حتّى: نعرف أحوال الإنسان، والكلّ هنا "جيرااان".

التعليقات (2)

    واحد من السوريين

    ·منذ سنة 6 أشهر
    متى كان السوري عنصراً أقلّ قيمة من التركي واللبناني؟، وبالتحديد: ماذا لدى التركي أو اللبناني مِثالاً ما هو ليس لدى السوري؟، اللون أم العرق أم الدين أم الشكل أم الذكاء أم اللغة، أم ماذا؟ ... هذا السؤال طرحه الكاتب في هذا المقال و الجواب باختصار أن السوري بالأساس لا قيمة له في وطنه و الحكومة السورية منذ استلام البعث للسلطة لا تحترم و لا تهتم بالمواطن و تعامل الغالبية من السوريين في ظل الحكم الطائفي كأطفال غير شرعيين او مواطنين درجة خامسة مع بعض الامتيازت للعلويين و أبناء الاقليات على أساس أن النظام حامي لهم ... عندما يقع أي إشكال يتعلق بمواطن أمريكي أو أوروبي او حتى عربي خليجي أول ما يتبادر للذهن هو قيمة هذا المواطن لدى حكومته و مدى استعدادها للدفاع عنه ... هنا في سورية لا المواطن له قيمة و لا الحكومة لها وزن دولي و لا الرئيس له سمعة حسنة في الخارج فهو بلطجي بوجه حضاري و من وراء الستار هو راعي لعمليات تهريب و صناعة المخدرات . و للعلم ... العدو الاول للشعب السوري و أكثر من أذى و سجن و قتل الشعب السوري و شرده هي عائلة أسد التي اورثت الحكم لأول مرة في نظام جهموري من الاب للولد .

    بشير الابراهيم

    ·منذ سنة 6 أشهر
    اسمع ما قاله عبد الرحمن الشرقاوي عن الأطفال الفقراء وحديثه معهم عن أصحاب القصور: فقلت لهم: قد رأيت القصور! فقالوا: القصور؟ وما هذه؟ فإنا لنجهلها يا ولد! فقلت: اسمعوا يا عيال.. اسمعوا.. القصر دار بحجم البلد فحكوا القفا وهمو يعجبون، ومدوا رقابهمو سائلين وهم خائفون: وهل يسكن القصر جن يطوف طواف العفاريت حول القبور؟ وهل كنت تمشى بجنب القصور؟! ألم يركبوك؟! ألم يخنقوك؟! فقلت لهم: إن أهل القصور أناس، سوى أنهم.. مثلنا؟ وظلوا يضجون حولي: أناس؟ أناس همو؟ أهمو مثلنا؟ فقلت لهم: إن أهل القصور أناس، سوى أنهم.. غيرنا!
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات