السويداء: الثورة من جديد

السويداء: الثورة من جديد

مناطق سيطرة النظام اليوم، أرض فوقها نار وتزداد اشتعالاً، وإناء يكاد يغلي وينفجر. رئيس تلك المناطق لا يبالي بأي شيء ولا يستمع لأي أحد، فلم يتغير خطاب نظامه منذ عقد من الزمن، فما زال يستخدم النبرة الاستعلائية التي لا تبعث بأي رسالة طمأنة أو تهدئة، نبرة ليس فيها إلا التهديد بالقتل والتعذيب "والفعس في بطون الناس". شعب غاضب يئن تحت وطأة الفقر والغلاء الفاحش الذي لا يطاق، وفقدت الأسواق مواد ما كان يتخيل السوري أن تفقد يوماً مثل الوقود وبعض المواد الغذائية. لعل الناس قد أدركوا أن هذا النظام لا يعرف متى وكيف يتحدث إليهم، وأدركوا أنه لا يبدو مهتماً بما يعانونه من بؤس وقهر، وإن أظهر الاهتمام يكون لخاصته فقط من دون الناس. ها هي السويداء قد أزمعت يأساً مبيناً من نوال النظام، وعبرت عن هذا اليأس باحتجاجات تتشابه في دوافعها وأهدافها مع احتجاجات السوريين في بداية الثورة عام 2011.

يمكن القول إن الأهالي قاموا بشيء من الحكمة بلقاء المحافظ لعل في الحديث إليه ما ينصفهم، إلا أن اللقاء كان مخيباً للآمال ووضع الناس في لحظة من الاضطراب بين ما هو متوقع وما هو واقع بالفعل. لم يتغير خطاب النظام قيد أنملة، فخطاب بشار الأسد في 30-3-2011 ولقاء أهالي السويداء مع المحافظ يخرج من مشكاة واحدة. فإما أن تكونوا معي أو ضدي. والاتصال الهاتفي بين رئيس شعبة المخابرات الجوية "غسان إسماعيل" وليث البلعوس نجل الشيخ وحيد البلعوس؛ يعبر عن أن النظام ما زال متمسكاً بالحل الأمني مع أي تحرك سوري ضده، فإطلاق الرصاص على الناس، وإتهام أهالي السويداء بالعمالة من قبل أبواق النظام الإعلامية لا يمكن فهمه إلا من هذا الباب. 

لم يعد النظام قابلاً للاستمرار، أو التغيير. لم يظهر من النظام أي سلوك يوحي بأنه قد تغير، فلا برامج لتحسين أوضاع الناس، ولا برامج لتحسين بنيته الداخلية. أي أنه ما زال مصمماً على ألا يتغير، وبالتالي، تشكل احتجاجات الأهالي في محافظة السويداء تتمة لاحتجاجات السوريين في بدايات الثورة المطالبة بإسقاط النظام وتغييره. ودعوات الاحتجاج الأخيرة ربما توحي بأن الناس لم يعد يهمها الإصلاح؛ بل هي بداية الاعتقاد بضرورة تغيير النظام حتى لو لم يعبروا عن ذلك بشكل صريح. النظام منذ بداية الثورة وإلى اليوم "يدرك بأن مشكلة الناس هي النظام ذاته"، ولذلك تعامل مع المحتجين بالرصاص الحي، ولا أستبعد أن أمر إطلاق الرصاص على الناس صدر من بشار الأسد.

إن توصيف ما يجري في السويداء بأنه ثورة جياع ما هو إلا ضرب من الجنون، كل السوريين جياع، كلهم تقريباً ما دون خط الفقر، بل ما دون خط البشر. هذه التسمية (ما دون خط الفقر) من أدبيات الأمم المتحدة، وتأتي على شكل يغطي على كارثة تبديد الإنسان، ما دام الحديث عن أرقام وليس عن بشر. وضع الناس في عموم سوريا يتجاوز الكلام في الجوع والفقر، إلى تبديد الإنسان السوري ذاته. وليس الأمر مسألة حاجة مادية فقط، بل إن الحياة ذاتها منهارة حتى في حدودها الدنيا. وبالتالي، إن كانت احتجاجات السويداء تعبر عن شيء، فإن هذا الشيء هو الكرامة التي خاض السوريين لأجلها بحراً من الدماء.

وتوصيفهم بأنهم خونة، ضرب من الغباء. متى كانت الاحتجاجات في وجه الاستبداد خيانة؟ ومتى كان دوس صور رموز الاستبداد خيانة؟ وإن كان وقت الاحتجاجات المتأخر هو ما دفع البعض لوصفهم بهذا الوصف فمن باب أولى وصف المحافظات الأخرى التي لم تحرك ساكناً بالخيانة والخنوع. أغلب من وصفهم بهذا بالوصف كان مدفوعاً بدوافع طائفية، أي الذين دائماً ما يحشرون أنفسهم في الزاوية ويتبنون خطاب المظلومية: أين كان هؤلاء عندما كانت الطائرات تأكل من أجسادنا؟ وهكذا. ولا يدري هؤلاء أن وصف الخيانة هو من خطاب النظام المجرم الذي وصّف به الناس في بدايات الثورة، ووصف به أهالي المحافظة عبر أبواقه التشبيحية.

إن دعوة المتظاهرين في السويداء المدن السورية الأخرى للإضراب تعني أن الوضع أصبح أعلى من طاقة الناس على الاحتمال، وأن الاحتجاجات لن تتوقف. هنا تأتي أهمية إعادة تفعيل دور التنسيقيات القديمة وإعادة التشبيك فيمَ بينها لتصعيد الحركة الاحتجاجية في السويداء والمناطق التي يمكن الاحتجاج فيه داخل مناطق النظام، ولإبداء التضامن مع أهالي المحافظة بمظاهرات في المناطق المحررة. والغريب أنه إلى الآن لم تقم أي مظاهرة في مناطق شمال وشمال غرب سوريا تضامناً مع أهالي السويداء!

إننا في منطقة عرفت بتحدي القيادات والشخصيات أكثر من تحديها لمبادئ السلطة في سورية. ولأهلها مواقف تحسب لهم مع الجنرال غورو وحافظ الأسد، ومع بشار الأسد الذي حاول إخضاع المحافظة بالمخدرات، وتنظيم الدولة، والميليشيات. ودائماً ما يعمد النظام إلى قتل عدالة المطالب بوحشيته، لأنه يعتقد تماماً أن أي محاولة للإصلاح تعني نهايته. فكفانا خوضاً في ثوريتهم، فتاريخهم لا يسمح لنا بذلك. 

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات