السلطة تستثمر علم النفس السياسي لحصار الثقافة

السلطة تستثمر علم النفس السياسي لحصار الثقافة

يشمل علم النفس السياسي على نماذج وأشكال لا تحصى في طرائق حل المشكلات أو إيجادها والتمهيد لها، بعكس بقية الفروع الأكاديمية التي تتجه صوب تضييق بؤرها والتركيز على التفاصيل المحددة؛ ويمكن فهم الأسباب الدافعة لعلم النفس السياسي صوب هذا التوسع انطلاقاً من الفروع الأصلية والكثيرة والمواد المتنوعة لهذا النوع من الدراسة. فإضافة للتخصصات والمهام التقليدية المعروفة له، فإن الحياة السياسية، وحياة السكان أثناء الحروب والأزمات، المعرفة وإنتاجها بمختلف الأشكال والطرق، القسر والضبط والتحكم بديناميكيات المجتمعات...إلخ كُلها تدخل ضمن السلوك البشري الأساسي الذي يهتم وينشط علم النفس ضمن مجاله العام، خاصة وأن المرتكزات الأساسية للسياسة هي الطبيعة البشرية.

وحتى نفهم السياسة لابد من فهم علم النفس؛ لأن شكل النظريات السياسية يقوم على أساس مجموعة الافتراضات المتعلقة بطبيعة الفرد وديناميكية الجماعة والقائد والمجموعة-المواطن الدولة-الوطن-الحقوق الفردية والجماعية وكلها تشترك بجانب نفسي في منشئها..، لذا فعلم السياسية يشكل نقطة الوصول والتلاقي بين علم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع؛ فهي تجتهد لشرح أعمال أو تصرفات العنصر البشري لتكون مفهومة، علماً أن هذا التوظيف لطاقات علم النفس في خدمة فئة أو جماعة وُجدت منذ التاريخ السياسي للعهد الأرسطي، حين كان المنظرون السياسيون يلجؤون للخطب النفسية؛ لتطويع عامة الناس وفرض قراراتهم على خطبهم وضمان عدم اعتراض “العبيد” على قراراتهم.

 لكن بخلاف علماء السياسية وتسخيرهم للمعرفة السيكولوجية في أهدافهم، فإن استخدام علم النفس في الثقافة والمعرفة ومختلف جوانب الحياة بدأت منذ عهد حديث وليس قديم جداً، وتحديداً بعد تطور ميدان علم النفس وحقوله العملية والمعرفية، لدرجة أنه لا مفكر أو سياسي "حقيقي" يُمكنه من تجنّب استخدام الافتراضات المتعلقة بالشخصية الإنسانية وماهيتها وآليات التعامل الروحي والنفسي معها.

ماهية واسعة لعلم النفس السياسي

معظم الدراسات السياسية المعتمدة على علم النفس خاصة لدى الأجهزة الأمنية، مراكز الدراسات، الباحثين الجادين، إنما تركز على علم النفس الفرد كسلوك أفراد أو قادة معينين وسلوك المواطنين المشاركين والمبعدين أو غير الراغبين بالعمل في الحياة السياسية، ثم البحث في السلوك الجمعي على مستويات عالية من تجمع مجموعات بشرية أمة -جماعة؛ لأن الدراسات السيكولوجية للأفراد والجماعات لا يقتصر على دراسة السير الذاتية لقادة معينين، أو مجتمعات محددة فحسب، إنما يتضمن فعل المسح الكامل لآراء المواطنين والقادات والشخصيات المفتاحية ومواقفهم، وأسباب عزوف شرائح عن العمل بمختلف مسمياته، فتضمن محاولات إيجاد الصلة بين سمات الشخصية والتوجهات الإيديولوجية، إضافة للاهتمام على النفس بالسلوك الجمعي كأشكال التعددية العرقية واللغوية لهذه الجماعات وحتى التواصلات المعقدة والثقافات والمسائل المتعلقة بقضايا السلم والحرب.. وعلى الضفة الأخرى ثمة من يسخّر ذلك العلم لخلق سمات الشخصية الاستبدادية الفردية وحب السيطرة، حيث السلطة والحكومة والمراكز البحثية الخاصة بها.

ليبدأ معها دور السلطة في استخدام علم النفس السياسي للانتقال من المعرفة الغنية حول الفرد وسلوكه إلى تسخيرها للتحكم بالجماعة، التي هي أساساً تجمّع لسلوك الأفراد على اختلافهم وتنوعهم، وتعي السلطة أنها ليست كافية لتفسير سلوك الجماعة؛ لأنها في الدول المركبة والمختلطة تتشكل من سلوكيات متنوعة مختلفة، والتغيرات الثقافية يمكن أن تكون سريعة على مستويات محددة مثالا حين اقامة نظام سياسي جديد، فتُخلق تحفيزات على مستوى الشخصية الفردية؛ لتتمسك أكثر بحقها الخاص في الثقافة والتعبير واللغة والحقوق السياسية، فتشتد المقاومة أكثر لتحقيق التغيير، لتجد السلطة نفسها دوماً أمام تغيرات وتطورات مستمرة فتعجز عن التنبؤ بها والسيطرة عليها دون علم النفس السياسي.

لذلك في غالب الأحيان تقوم السلطة على مقاربة ضبط الممارسات الاجتماعية اليومية؛ على أمل الاستمرار في السيطرة، لكنها أي السلطة تبقى تخاف من تعقيدات الشخصية الفردية وتأثيرها على أيّ نظام سياسي، لذلك تركّز السلطات الاستبدادية دوماً جهودها على المواقف والمشاعر الثرة للناس التي تُظهر تجاه السياسة عبر السلوك العملي، فيكون التحليل أكثر ثقة وطمأنينة لتلك السلطة، لأن ذلك السلوك هو جزء من جملة المواقف والتصورات الخاصة بالأفراد وهي تتحول لسلوك جمعي بطبيعة الحال، والأفراد يحتاجون للمساحات الكافية للتعبير عن الرأي والمعارضة لمحاولات الضغط والإكراه، لذلك تطمئن السلطة لعمليات المسح والاستبيانات وأدوات قياس الرأي العام بشكلها العلني والظاهر؛ فهي لن تقدم أيّ تفسير دقيق يؤجج المشاعر والاتجاهات التي ترسم المواقف من السياسات التي كانت متبعة ومطبقة؛ لأن المواقف والمشاعر المفسرة لسلوكيات الأنظمة السياسية تخضع للخوف والفرز والمشاعر المتباينة، والمستفيدون من شبكات السلطة والفساد...إلخ سيدافعون عن أيّ نظام سياسي قائم بغض النظر عن طبيعته، وهؤلاء أيضاً يُشكلون جزءاً من الرأي العام، لدى السلطة على الأقل.

العلاقة بين علم النفس السياسي والثقافة

هي علاقة ملتبسة قائمة على الشد والجذب والمواجهات المباشرة أو الاستعارية، فعلم الثقافة مفهوم فريد من نوعه في العلوم الاجتماعية من حيث خطوط التماس المباشر مع الناس أو من حيث الدوائر التي تفرز الناس على درجات ومستويات الثقافة، وصحيح لا يمكن تحديد مفهوم الثقافة بأي درجة من الدقة الفكرية، لكن لا يمكن تحييدها أيضاً في مسعى التفكير الجدي بأعمال المجتمع البشري وسلوك البشر، لدرجة أن العلوم الاجتماعية والفلسفية والنفسية تركز لدى التحليل للقضايا الإنسانية والسياسية والاجتماعية على أن للثقافة دوراً جوهرياً في وجود المجتمع البشري، خاصة وأن سلوك الجماعات متأسس بجوهره وتعاملاته تبعاً للعناصر الذاتية والترميزية والموضوعية بما تشكله الثقافات، أي إن الحقيقة الاجتماعية هي ثقافة بجوهرها وتمثل جوهر أي نظام سياسي اجتماعي، لتصل لنتيجة مفادها أن للثقافة دوراً مميزاً في تكوين هوية واضحة حسب نتاج الجماعات/الأفراد الموضوعي ورموزه ولغته والأنماط السلوكية المتطورة، وهو ما يقول عنه علم النفس السياسي أن السلوك والأفعال والتصرفات كلها يمكن أن تعزى إلى أعمال الثقافة.

ومن هنا تعود السلطة عبر علم النفسي السياسي للتدخل ثانية لقياس الاختلافات الثقافية والسيكولوجية بين الأفراد وثم الجماعات نفسها، كما تبحث في الجذر الثقافي المحرك لنزوع الاعتراض على السلطة أو الدفاع عنها، ودرجة مشاعر الاحترام تجاه السلطة من عدمها، خاصة وأن أسباب استثمار السلطة لعلم النفس السياسي في إحدى أبرز ممارساتها تقوم على خشيتها من تواصل الجماعات البشرية المتباينة من حيث الدرجة الاجتماعية المكونة للمجتمع، بشكل أدق تواصل/تحالف قاطني الأحياء والضواحي الفقيرة مع الطبقتين الوسطى والبرجوازية، وما يُمكنه أن يتسبب بما يُعرف اختلالات التوازنات الاجتماعية التي ترسمها السلطة، فتجتهد تلك السلطة بمراقبة حجم ونوع التطور التعليمي لأبناء الطبقات الفقيرة والناقمة على السلطة، كونها الأقل دعماً في مجال التأهيل الاجتماعي، وأيّ تقارب فكري بين أبناء تلك الطبقات سيعني بالضرورة التعريج على نمط ونوعية الحكم والسلطة والموقف منهما، فيتطور خوف السلطة وتلجأ لعلم النفس السياسي في محاولة منها لضبط ديناميكيات الثقافة والاقتصاد، ومنع التواصل بينهما لدى الفئات الاجتماعية الجديدة الناجمة عن علاقة الطبقات الثلاث مع بعضها (البرجوازية، الوسطى، الفقيرة والمسحوقة).

 وأكثر ما تخشاه السلطة هو البعد الثقافي لدى الأجيال الناشئة في المجتمعات المركبة التي عانت الفقر والحرمان، خاصة التي تملك ذكريات ضاغطة تتحكم بسلوكياتها المعارضة للسلطة، التي تدرك أن ذلك التحالف مع تلك الذكريات ستشكل خارطة ذهنية تقوم بمثابة المرشد للسلوك السياسي الجمعي لهم، وهو بمثابة التمهيد والتوافق الشعبي لخلق صدام بمحركات ثقافية ضمن المجتمع الواحد ضد السلطة ومجتمعها الخاص.

 ولأن ذلك النوع من السلطات تدرك أن علم النفس السياسي يخلق مساحات كبيرة للتعبير السوسيوثقافي ويمنح العاملين في مجالها أبعاداً فكرية عميقة، لذلك من النادر أن يُوجد مركز أو هيئة للدراسات السياسية التي تعتمد على علم النفس خارج دوائر السلطة، خشية هياكل الحكم من خروج الشعب الذي حوّلوه إلى "قطيع" من دائرة التلقي لفكرة الإرسال والاعتراض، وتدرك السلطة أن مثل تلك المراكز ستساهم في عملية التأهيل الاجتماعي منذ الطفولة لينمي خيالات الناس المعقدة والطويلة الأمد، وهو أكثر ما يخافه الاستبداد.

 

 

التعليقات (3)

    محمود

    ·منذ سنة 3 أشهر
    تحية لاورينت وللكاتب لا يوجد سياسة ولا مجتمع حي دون ثقافة.

    كردي

    ·منذ سنة 3 أشهر
    كردي يتفلسف بعلم النفس السياسي هولاء هم عباقرة الاكراد والله عزيم بيدحك لو

    Samo mars

    ·منذ سنة 3 أشهر
    مقال غني بالمعلومات التي لا تهم أغلب من يقرأه لأنه بإختصار لا يفهمه .. هذا النوع من الكتابات يفترض أن يبقى في الأوراق العلمية .. الدراسات والبحوث .. والكتب على أبعد وأدق تقدير .. الكتابة للجمهور يعني اتصال مع الناس يحتاج لأسلوب محدد أبرز ما يميزه الوضوح والبساطة بلا تعقيدات ..
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات