بين الفوالق الزلزالية والسياسية

بين الفوالق الزلزالية والسياسية

تحركت الصفائح التكتونية، وتداخلت الفوالق الزلزالية في الفوالق السياسية، وتغيرت معها المعطيات، وبدا بشار الأسد من أصحاب الأرواح المصفحة، وهو وصف "مرضي" أُطلق على أولئك الذين حكموا بلاد الإغريق، وامتلكوا قوة خارقة ضد الأوبئة والزلازل والموت.

 

تنفس الأسد الصعداء إذاً، ولم يعط فرحته لأحد كما يقال في الموروث الشعبي، وتجاوز ما أنجزه خلال أحد عشر عاما، من خلال "صموده" حسبما قال حين ظهر في حلب ضاحكاً بشكل وقح، مزهوا بانتصار جديد قدمه له الزلزال على طبق من ذهب، وتخلص كما صورت وسائل إعلامه من كابوس العزلة وضغط العقوبات، وعجت بأنباء اتصالات زعماء المنطقة والعالم به. 

 

ما جعل الأسد سعيدا أيضا هو انهيار الأبنية التي اختلطت مع الأبنية التي دمرها، وعدد الضحايا الذي سيحمل عليه عدد ضحايا مقتلته، ووجد بالزلزال استمرارا لما كان يفعله بالسوريين في شمالي غرب سوريا، طيلة السنوات الماضية بمشاركة روسيا وإيران، ورأى فيه مخرجا يعلق عليه الجرائم التي ارتكبها. 

 

وما جعل الأسد سعيدا أيضا هو المساعدات الإنسانية التي تدفقت عليه، بحيث وجد فيها ما يملأ خزانته الفارغة، ويدعم آلته العسكرية والأمنية، ويعطي بعضا منها لشبيحته وتابعيه الذين باتوا على وشك الانتقال إلى مرحلة ما بعد التململ، إذ حجبتها الفرقة الرابعة وما تسمى بالأمانة السورية للتنمية ومؤسسة العرين عن مستحقيها، وحولوها لمواد وسلع معروضة للبيع في الأسواق. 

 

ولعل سعادته الكبرى كانت إزاء مركز الزلزال جنوبي تركيا، الذي أدى إلى دمار في عدة ولايات ووقوع نحو مئة ألف بين قتيل ومصاب، فالكارثة كبيرة، إذ إنها تحتم على الجانب التركي التركيز على تضميد الجراح، والانشغال في إعادة الإعمار، مع ما يعنيه ذلك من تحول الاهتمام عن توسيع المنطقة الآمنة التي كانت تركيا تخطط لإنجازها من خلال اتصالاتها مع النظام على أن تنتزع في إطارها اتفاقا يوسع اتفاق أضنة، مع محاولة إجباره على الانخراط في الحل السياسي. 

 

إيران لم تخف سعادتها هي الأخرى، وسارعت بوقاحة إلى استغلال كارثة الزلزال وأفهمت بشار الأسد بشكل مهين، بأنه ليس هو الأكثر سعادة واستثماراً للزلزال، ووجهت رسالة للعالم والعرب خصوصاً، بأنها هي صاحبة القرار في سوريا أكثر من روسيا الغائصة في مستنقع أوكرانيا، إذ كان قائد ميليشيا فيلق القدس اسماعيل قاآني سبق بشار الأسد في زيارة حلب واللاذقية، وأخّر الأخير بإيعاز من إيران موعد زيارتيه إلى مابعد انتهاء المسؤول العسكري الإيراني من زيارتيه الاستعراضيتين، وأخذ الصور التذكارية فيهما. 

 

وسائل إعلام إيرانية قالت إن زيارتي قاآني لكل من حلب واللاذقية هدفهما أن يطمئن بنفسه على الشعب الذي أحبه ودافع عنه لسنين طويلة في الحرب، إذ وجه خلال اجتماعه بمحافظ اللاذقية بتقديم مساعدات للمتضررين.. فيما كان رئيس أركان ميليشيا الحشد الشعبي " الإيرانية" عبد العزيز المحمداوي، في مقدمة مستقبلي بشار الاسد في حلب. كذلك كان لافتا إعلان وزير خارجية إيران حسين عبد اللهيان استعداد بلاده لإيصال المساعدات إلى إدلب الخارجة عن سيطرة النظام والهدف كما يبدو هو تسجيل حضور على الأرض في منطقة التصعيد الرابعة التي لطالما غُيبت إيران عن تقرير مصيرها. 

 

قسد بدورها رأت أن الزلزال سيخفف الضغوط التركية عليها، ويرجح أن تغير  أولوياتها، التي من بينها اللجوء إلى النظام لمواجهة تلك الضغوط، ما يعني ابتعادها عن الروس الذين يدفعونها باتجاه النظام، والاقتراب أكثر من الولايات المتحدة والغرب عموما، هذا الغرب الذي أرخى حبل القرار 2254 من عنق النظام طيلة السنوات الماضية، وتوزعت إرادته بين مصالحه في الصراع مع روسيا، وبين الابتعاد عن القضية السورية لإبقائها متجمدة ضمن مناطق النفوذ.

 

الغرب الآن كما العرب وجدوا أنفسهم أمام كارثة، هم الأكثر تأثرا بها، بحكم الجغرافيا، والعلاقات الاستراتيجية، وهم الأكثر قدرة على المساعدة في التخفيف من وطأتها، لذلك فمن المرجح أن تقترب تركيا منهم، وهم سيقتربون أكثر، وهو ما دللت عليه الساعات القليلة التي أعقبت وقوع الزلزال، وهذا كان واضحا من خلال توجيه الرئيس الأمريكي الوكالات بتقديم كل ما يمكن من مساعدات، وإعلان البنك الدولي تقديم مساعدات عاجلة لتركيا بقيمة 1,78 مليار دولار، ومسارعة اليونان إلى تقديم المساعدات متجاوزة حمأة الخلاف مع تركيا، ودول أوروبية أخرى، إضافة إلى جسور جوية من قطر والسعودية وغيرها من الدول العربية لمساعدة تركيا..

 

لن يطول غياب الغرب والعرب عن القضية السورية، والبوصلة ستكون الباب الإنساني، وليس إعادة تعويم النظام، بعد أن سلم قراره السياسي صاغرا لإيران، وقد تصدرت واجهة الحدث، وأعطت إثباتات جديدة بأنها الراعي الرئيس لبشار الأسد في حربه ضد شعبه، وتهديدها العرب والجوار، ولن تنفع محاولات فك الارتباط بينهما، لذلك فإن تعامل الغرب والعرب سيكون ضمن هذه المعطيات، ولا سيما أن الغرب صعّد خطابه ضد إيران قبيل كارثة الزلزال، ولم يعد يعبأ بالتقدم بالاتفاق النووي مع إيران، نظرا لدورها التخريبي في المنطقة، وشراكتها الناشئة مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا.

 

وما بدا انتصارا للنظام على جثث ضحايا الزلزال، وتعويما مؤقتا له، واستثمارا زاحمه عليه الإيرانيون لا بل واستولوا عليه، مع تغير أولويات القوى الفاعلة، وتقارب تركيا المرجح مع الغرب، لن يجعل بشار الأسد يتنفس الصعداء طويلا، فمن الصعب أن يكون جزءا من المستقبل حتى لو اقترب من نظرية "سميه" الجعفري رجل إيران القوي ضمن النظام وصاحب نظرية الجيوبوليتيك، الذي أراد من خلالها الإيحاء بأن إيران يجب أن تسيطر على سوريا والعراق ولبنان، على الرغم من أن هذا الجيوبوليتيك هو قائم أساسا ولكن ليس على طريقة الجعفري، ومنذ الإغريق والفرس والروم والعرب والعثمانيين وغيرهم.  

 

لطالما غرف الاستبداد عبر التاريخ من ذلك الصعداء الذي يتنفس منه بشار الأسد الآن، ولم يملك أحد من أولئك روحاً مصفحة، وإن كان يقال في الموروث الشعبي: إن فلاناً هو كالقط بسبع أرواح، فهذا لعمري مستقى من أسطورة فارسية تتحدث عن قط معجون من دخان ولهب لا يموت، وكان أهداه مشعوذ للقائد الفارسي الشهير رستم، إلا أن العرب أجهزوا عليه قبل معركة القادسية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات