بين زلزالين

بين زلزالين

في سوريا، يتلقى الناس أخبار الموت أكثر بكثير من أخبار الحياة، ويأتي الموت بأشكال لا حصر لها، ومن جهات أربع، إنها جغرافيا المحنة الكبرى، والتي أتاها الظلم والطغيان من الجوار وما بعد الجوار.

قليلة هي أسباب الموت المنطقية في سوريا، وكثيرة أسبابه المتعلقة بالقهر والظلم، قد يكون مدناً محروقة بقنابل روسيا الاتحادية، وقد يكون سلاحاً كيمياوياً، وقد يكون إعداماً ميدانياً، ومجازر بحق مدنيين، ومرات تعذيباً وتفجيراً.

لا يُفهم الموت الذي أشهره الطغاة ضد الشعب السوري، إلا أنها مقتلة تجري على رؤوس الأشهاد، بحجة الإرهاب مرة وبحجة هدم هيبة (الدولة) مرة أخرى، ومن يدفع أثماناً من الأرواح والجغرافيا لا يمكنه إلا أن يحرق كل شيء، ويستقدم كل البغاة والطامعين بحجة أو بأخرى.

الزلزال السوري بدأ بإنذارات أولية عندما تسلّم البعث السلطة، فلم تعد سوريا أرض اليقظة العربية، ولا الجمعيات المدنية، ولا التجربة البرلمانية المتقدمة، ولا أرض الأكثرية السنّية التي أعطت قيادة الثورة للزعيم الدرزي سلطان الأطرش، والتي استوزرت للأوقاف المسيحي فارس الخوري.

وتلا ذلك موجات الإصلاح والتأميم، التي تخفي شهوة المال والسلطة بحجة الإنجازات الاشتراكية، وتضخمت أجهزة الأمن وتغوّلت، وحُكمت سوريا بقبضة من نار وحديد، هدّمت كل صرح وكل مجد وكل هامة وكل تاريخ، وصدّعت الحدود الأخلاقية والوطنية والقانونية، وأحدثت دماراً كلياً سيبقى تردده إلى ما شاء الله والتاريخ والذاكرة الجمعية للبشرية.

سوريا زلزالها الأكبر هو سلطتها المدمّرة، التي جعلتها صدعاً في جبين الجغرافيا والتاريخ والسياسة، صدعاً بلغ درجة استثنائية. ولم يكن الزلزال رغم ضحاياه يحمل أبداً قبح الزلزال السلطوي، بل كان نواميس وسنناً للتكوين والخلق، سِمَتُها التراجيديا، لأنها مخاض عسير لتغيير البنية والتشكيل. 

وإحالة هذا الأمر إلى تفسيرات وهمية، ماهو إلا هروب من الحقيقة واستسلام ليقين خادع لا يروم إلا المزيد من الإغراق في الوعي المزيف، ورغم أنه زلزال خاطف وعلى غفلة، إلا أنه بريء لأنه من المقدّرات التي قد تكون بعيدة عن المشاعر والعواطف والقصدية والمعايير والقياس والقيمية، والمقدرات محجوبة، ليست حجاب الميتافزيقيا أو الماورائيات، لكنه حجاب الجهل ومتعلق تماماً بسؤال الإنسان الكيفي والاستفهامي، ثم العمل على الاستيعاب والتماهي.

وإذا كانت الأمور تجري في أفق تاريخي وإنساني معين فأعتقد جازمة أن كل هذا كان زلزالاً سورياً، وقد دُمر بـ(تسونامي) بعثي أمني استمر عشرات العقود.

وبعد ذلك كانت الكارثة المضاعفة، لقد جاء الزلزال ليؤكد أن لسوريا وضعاً أوحد وشاذاً، وأن له معياراً واحداً، هو معيار سلطة باغية ومتخلعة من الأطر والمساحات والمسافات والمتون والهوامش.

بعد كل هذا ما علينا إلا أن نحدّد ما تريده الحركة الوطنية في سوريا، وما هي خصائص مجتمعها المدني والذي وحده يستطيع أن يحرّر الفرد والجماعات، ويعطي للنقابة مدلولها وللنادي وطنيته، وللعقد الاجتماعي وظيفته العضوية في تنظيم علاقة المواطن بدولته، ويحدّد ملامح الانتماء والهوية.

ومن المؤكد والحتمية أن المجتمع سينتصر، لأنه بدأ بالكشف والمكاشفة، فهو صاحب هدف الروح السورية الكونية إنسانياً وحضارياً، يريد العدالة بين جميع المكونات الإثنية والدينية والجغرافيّة.

أصبح الشعب موثِّقاً لتاريخه، يرتاد الممنوع والمستور، ويعلن في وقت كارثته الكبرى أين تذهب المساعدة ولماذا تُستثنى قطعة من الوطن؟.

سوريا الطبيعية كانت خلية نحل، أعطت للقاصي والداني صورته الحقيقية التي حاول نظام الممانعة تلويثها بوسائل رخيصة وخبيثة.

والشعب الحر يعبّر عن الآخر ويعي الاختلاف والتعددية، وسوريا المحروقة والمزلزلة، تعيش اعتلاج القيامة والنهضة، ولن تسامح من سلبها حق الكرامة والإنسانية والحياة الحرة، وعليها أن تقاوم بكل ما أوتيت وتحاور وتحاسب وتتسامح، نعم إنه زلزال بقدر نهوض الروح السورية العظيمة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات