مأساة السوريين والشعور باللذة اللاواعية

مأساة السوريين والشعور باللذة اللاواعية

هذا العنوان أعلاه شطر من أغنية وين الملايين، التي كتب كلماتها الشاعر الليبي علي الكيلاني، هذه الأغنية وطنية تحكي معاناة الشعب الفلسطيني مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، وقام بأداء الأغنية جوليا بطرس من لبنان وسوسن الحمامي من تونس وأمل عرفة من سوريا عام 1987، ومازالت هذه الأغنية تردد في أكثر من مناسبة في ظل تطبيع أنظمة عربية كثيرة مع إسرائيل، وحالة من الانقسام الفلسطيني، وحركتا فتح وحماس تبحث كل منهما عن الملايين من الدولارات لتقوي نفسها ضد الأخرى، وكذلك موقف المطربات الثلاث من ربيع الثورات العربية.

ومن الأمور الغريبة التي انطبعت عند ما يسمى المجتمع الدولي خلال العقدين الماضيين، هي التفرج أو ما يُطلق عليه بالعامية "الفرجة"، إزاء ما يحدث للسوريين الذين ثاروا لنيل حريتهم وكرامتهم من حاكم مستبد وطاغية، وما يواجهونه من قبل آلة موته من قتل وتعذيب واعتقال وتهجير، يضاف إليها مصاعب وويلات وظروف قاسية أخرى.

إن ظاهرة الفرجة على مأساة السوريين دفعت العالم المتفرج للأسف، أن يشعر بلذة الفرح والألم في آن واحد، حيث سبق للكاتب ديستويفسكي أن نبّه إليها حين أطلق عليها وصفه المعروف "الشعور باللذة اللاواعية"، أي الشعور بلذة الفرجة ومعاينة آلام الآخرين، وهي تخفي وراءها مزيجاً مُركباً من الحزن والفرح.

وعندما ننظر لواقع السوريين وآلامهم، نجد أن هذا الشعور المُركّب أصبح كسلوك عند أغلبية المجتمع الدولي والإقليمي يُصاحبه عدم الاكتراث لِما يحدث، ما أدى بالنتيجة إلى إضعاف المجتمع السوري برمته وشتَّت قِيمَهُ ومسؤوليته الوطنية والإنسانية على حساب حريته وكرامته. 

إن التصرف على وفق هذا السلوك المُركب والتفرج على واقع يُغطيه الفساد الأخلاقي والقيمي وتدهور الواقع المعيشي، جعل الجميع جلوساً على منصة الشقاء بسب هذا الشعور، ذلك أن الفرجة التي توغلت في السلوك، زرعت حالة من الحزن والفرح معاً من دون اكتراث لعواقبها وتأثيرها على مصير الشعب ومستقبله، وما يصاحبها من تدهور معرفي و تعليمي وصحي وخدمي واقتصادي تؤذي الشعب السوري ويزعزع وجوده في محيطه الاجتماعي والجغرافي.

عندما كتب جي ديبور كتابه" مجتمع الفرجة" عام 1992 لم تكن البشرية قد دخلت بعد دنيا وسائل التواصل والقرية الصغيرة والعالم الافتراضي، هذا العالم الافتراضي وسرعة نقل الحدث والصورة، افترس العالم الواقعي وأصبح العالم المتفرج يفضّل الصورة على الأصل والمظهر على الوجود والوهم على الحقيقة، فلم يعد مهماً أن يشعر المتفرج بالحزن على آلام الآخرين قدر اهتمامه بالمشاهدة، وليس مهماً مقدار ما يشعر به السوريون من حزن وألم، ولكن الأهم أن يشاهد العالم المتفرج بأنهم يتعرضون لظلم لم يعرفه أحد من قبل، وأصبحت حياة السوريين أشبه بالسلع المعروضة على محطات الإعلام ومنصات التواصل.

وقد يقول قائل: لماذا لا نعتبر الإعلام ومنصاته نوعاً من هذا الهتاف والصراخ الذي يجب أن يسمعه ويشاهده العالم ليحنوا عليهم ويتحرك لإنقاذهم؟

ولكن هل يستطيع الإعلام ومنصات التواصل أن تخفف حقاً من آلام السوريين؟ أم إنه مسكن يشبه قرص الأسبرين الذي يخفف العرض ومع ذلك يبقي المرض؟

فمنذ أشد الفصول رعباً في المأساة السورية وهي استعمال السلاح الكيماوي ضد المدنيين والذين ماتوا اختناقاً، يزداد الإلحاح بعد كل الكوارث التي كانت تقترفها يد جيش الأسد وميليشياته بحقهم وأخيراً كارثة الطبيعة من خلال الزلزال، ما معنى شكل التعاطف الإنساني وجدواه؟، فما حدث للسوريين من كارثة الزلزال، سبقه كوارث زلزال الأسد ودماره وتكرر في لحظات كثيرة على مدار عشرات السنوات ، ولا نجد لتلك الكوارث سوى ردود فعل عبر بيانات استنكار وشجب من المجتمع المتفرج، يترجم تداولاً لمنشورات وتعليقات وفيديوهات وصور تنقل وجه المأساة السورية، والتي لا يمكث إثرها سوى أيام قليلة في أفضل الأحوال، وساعات معدودات في أسوئها.

ويصبح السوريون في ظل العالم الافتراضي ووسائله مجرد مادة للمحتوى المكون غالباً من الصور ومقاطع الفيديو، وإن ما يُسمى التعاطف الإنساني هو مجرد شكل من أشكال الترفيه وتزجية الوقت، علماً أن حجم المأساة السورية يستدعي الأفعال لا الأقوال، وليس الفرجة على آلامهم، وأن الأجساد القابعة بزنازين الأسد والذين هُجروا من ديارهم ويسكنون الخيام والذين غرقوا في البحار، والذين الآن تحت الأنقاض سيجدون ما هو أكثر من الإعجابات والمشاركات والتعليقات والقلوب الافتراضية المحطمة، معينا لهم.

قبل وقوع الزلزال الأخير، كان الوصف العالمي والعربي معاً، قد استقرّ على أن ما شهدته سوريا خلال السنوات الماضية، أشبه بالكارثة، ولكن في نهاية المطاف لم يتغير الواقع إلى واقع أفضل، ولم يسقط الديكتاتور، ولا أصبحت سوريا ديموقراطية، ولم ينل الشعب حريته المنشودة، ولم يفرج عن المعتقلين ولم ينالوا الأدنى من العدالة.

وأمام الأعداد الفلكية لأولئك الضحايا من قتلى ومهجّرين ومعتقلين، بدا أن ما يعانيه السوريون لا يعدو كونه مسلسل فرجة، وتم التسليم الصامت أحياناً والمعلن في أحايين أخرى، بالحال التي استقرت عليها سوريا اليوم: بلد ممزق، مقسّم بين نظام ومعارضة وإرادات ومصالح دولية.

الكثير انتقد واستغرب من تأخر مساندة الشعب السوري المنكوب في الشمال السوري، وعدم دخول مساعدات ونجدات من المعابر بعد أيام من الزلزال وربما هي المرة الأولى منذ سنوات، التي تخلو فيها سماء البلاد الخارجة عن سيطرة نظام الأسد من القصف أو الاستهداف.

الإغاثات والمساعدات الإنسانية اعتمدت على المصالح ومواقف الحكومات من الثورة السورية في مساندتها للشعب السوري المكلوم، فهم تسيرهم المصالح ولا تحركهم العواطف والكوارث.

وقصة الإنسانية والتعاطف، فهي أمور بالنسبة لهم ساذجة لا تعتمدها الدول في علاقاتها.

هم يشبهون في فعلهم، المصوّر الذي انتظر التقاط صورة لطفل يموت من الجوع أمام نسر ينهش جسده ليقدمه وجبة دسمة لصغاره، ولكن الصحفي انتحر لاحقا عندما استعاد الإنسان الذي في داخله.

و مازال السوريون يأملون وينتظرون أن يستعيد النظام العالمي الإنسانية بعيداً عن المواقف والمصالح، والتمييز بين ماهو إنساني وما هو سياسي يستوجب تجريم الأسد ورفع الظلم عن المظلومين والمقهورين دون وجه حق بسبب كلمة قالوها أو رأي عبّروا عنه، وهو أمر يستحق الإشادة والثناء.

الاكتفاء بالجانب الإنساني وتجاهل الجانب السياسي يحوّل السوريين المظلومين إلى "عبيد" الإحسانات، يجأرون بالشكوى والدعاء عند الظلم ويلهثون بالشكر والثناء عند الكف عنه.

الجانب السياسي عند التعامل مع القضية السورية يستوجب إدانة البنية السلطوية التي تحكمها والسعي لتغييرها بكافة الطرق.

فالارتياح الإنساني لرفع الظلم شيء، والإدانة السياسية لوقوع الظلم أصلاً شيء آخر.

فدكتاتورية الأسد نتنة وقبيحة، ولا يمكن تجميلها بكل مساحيق التجميل السياسي، وفي الأرشيف مواد كثيرة تشهد على ذلك.

التعليقات (1)

    نهى نهى

    ·منذ سنة شهرين
    مقال رائع احسنتم
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات