كفرسوسة أكثر من مجرد غارة

كفرسوسة أكثر من مجرد غارة

أدى الانشغال الشديد بالزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا وهزاته وتبعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الإستراتيجية، إلى عدم إعطاء الاهتمام السياسي والإعلامي الكافي للغارة التي نفذتها إسرائيل أواخر شباط/ فبراير الماضي، واستهدفت فيها شققاً ومكاتب في مشروع كفرسوسة السكني وسط العاصمة دمشق، وأدت إلى مقتل وإصابة العشرات غالبيتهم من الإيرانيين والميليشيات الطائفية التابعة وعناصر من نظام الأسد تواجدت أيضاً في تلك الشقق عند استهدافها.

قبل الحديث عن الحيثيات والدلالات وتداعيات الغارة اللافتة والاستثنائية لا بد من الإشارة إلى المشروع السكني الجديد بحي كفرسوسة العتيق الذي تم تهجير أهله من الدمشقيين الأصليين الذين واجهوا وصدّوا وهزموا الغزاة عبر التاريخ - عندما كان آل الأسد يتوسلون بقاء الاحتلال الفرنسي في سوريا - بالقوة القهرية والابتزاز إلى الأحياء المحيطة بدمشق - هذا يفسر سبب أو أحد أسباب انتفاضة الأحياء المحيطة بالعاصمة  مثل حرستا ودوما أوائل الثورة  - والاستيلاء علي مزارعهم وممتلكاتهم ضمن منطق أمني انتهازي رأسمالي بحت من أزلام العائلة والطائفة الحاكمة في البلد، التي نهبت خيراتها وحوّلت سوريا التاريخية العظيمة إلى ضيعة لآل الأسد والطائفة الحاكمة قبل أن يسلموها للغزاة على اختلاف مشاربهم تماماً مثلما فعل أجدادهم مع الفرنسيين منتصف القرن الماضي.

لم تعلن الدولة العبرية بالطبع وعلى عادتها عن مسؤوليتها الرسمية عن الغارة مع تسريبات وتعليقات وتحليلات في الصحافة ووسائل الإعلام. تعاطت معها وكأنها إسرائيلية فعلاً، وذلك قبل أن تنقل وكالة رويترز عن مصادر عبرية وأخرى أجنبية - غالباً أمريكية - أن تل أبيب استهدفت شققاً ومكاتب تابعة للحرس أثناء اجتماع لخبراء ومهندسين وفنيين يتبعون إيران وميليشياتها، ويعملون على مشاريع لتطوير الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة مع تعذر نقلها من طهران إلى دمشق وضاحية بيروت الجنوبية إثر انكشاف خطوط التهريب البرية والجوية والبحرية من قبل المخابرات والطائرات الإسرائيلية، ورفع الغطاء الجوي الأمريكي في العراق والروسي في سوريا عن إيران وتموضعها العسكري والإستراتيجي خارج الخطوط المرسومة لها من قبل الغزاة والقوى القائمة بالاحتلال في البلدين.

إلى ذلك يجب التذكير أن الهجمات الإسرائيلية لم تتوقف بشكل عام ضد مواقع إيران وميلشياتها في سوريا طوال السنوات السبع الماضية، وشملت مئات الغارات وأطناناً من المتفجرات ومئات القتلى وآلاف المصابين دون أي ردّ جدّي من إيران وأذرعها، وهذا المعلن فقط علماً أن ثمة هجمات وغارات أخرى تتم في الخفاء ولا تخرج إلى الإعلام إلا نادراً، كما رأينا مثلاً في التوغلات البرية وإقامة حزام أمني إسرائيلي داخل الأراضي المحررة من هضبة الجولان.

كانت الدولة العبرية قد أنهت العام الماضي بغارة لافتة ضد قافلة سلاح إيرانية على الحدود العراقية السورية ثم بدأت العام الجديد بغارات جديدة استهدفت نفس المنطقة قبل أن تنتقل إلى مطار دمشق ومحيطه وتُخرجه مؤقتاً من الخدمة لساعات مع تحذير بتعطيله نهائياً إذا ما استمرت إيران في استغلاله لغايات التهريب العسكري خدمة لتموضعها الإستراتيجي في سوريا، وتسمين أداتها وذراعها الإقليمية المركزية في لبنان.

مع ذلك كله تبدو الغارة الأخيرة في كفرسوسة التي نحن بصددها مختلفة شكلاً ومضموناً كونها استهدفت لأول مرة حياً سكنياً لا معسكرات تابعة للنظام شكلاً وخاضعة فعلياً لهيمنة الاحتلال الإيراني.

نتحدث كذلك عن عملية جراحية دقيقة بالمعنى العسكري – استخدم الذراع الإيرانية المركزية عن جهل وغطرسة نفس المصطلح في غزوة 8 أيار 2008 ببيروت - وأصابت شقق ومكاتب محددة في ثلاثة طوابق فقط من المبنى السكني المستهدف.

بداية كانت تسريبات وأخبار عن استهداف المسؤول العسكري لحركة الجهاد الإسلامي أكرم العجوري مع اتهامات معتادة من أوساط الحركة لروسيا بالتعاون الأمني مع إسرائيل والتواطؤ معها، كما جرى في غارة 2019 التي قُتل فيها نجل العجوري وأحد مرافقيه بغارة إسرائيلية استهدفت بيته الجديد بعد انتقاله إليه بأيام فقط.

قيل أيضاً إن الغارة أتت ردّاً على استهداف الحرس سفينة مدنية خاصة بملكية جزئية لرجل أعمال إسرائيلي تديرها شركة يونانية وترفع علم ليبيريا في بحر العرب قبل أيام ولكن هذا غير صحيح كون الأضرار جاءت طفيفة جداً، علماً أن إيران لم تستهدف حتى الآن سفينة بملكية إسرائيلية كاملة أو ترفع العلم الإسرائيلي أو حتى متجهة أو تعمل على خط الموانئ الإسرائيلية، وكل السفن المستهدفة هي بملكيات جزئية وخاصة ومسجلة في دول أجنبية وترفع أعلامها على عكس البروباغندا الدعائية للحشد الشعبي الإعلامي الإيراني الناطق بالعربية.

 أتت غارة كفرسوسة بعد التحذير الإسرائيلي من استغلال إيران فاجعة الزلزال لنقل مستلزمات ومعدات عسكرية أو ذات استخدام مزدوج بحجة إغاثة الضحايا والمنكوبين لتسريع مشاريع يعمل عليها الحرس الذي يبدو سعيداً بتلقي الضربات الإسرائيلية لتبرير وجوده وسياساته الاستعمارية التوسعية كما تقول آلته الإعلامية وفى سياق الهرب من أزمة النظام الداخلية المتفاقمة بل وتبريرها بالمؤامرة الخارجية المزعومة.

 من جهتها سعت إسرائيل ولا تزال إلى بقاء خطر إيران حاضراً على جدول الأعمال ورصّ الصفوف ضده إقليمياً ودولياً حتى دون إعلان رسمي عن الغارات والهجمات ضدها لكن مع تسريبات وتصريحات لا تتوقف كما رأينا في تقرير رويترز.

بدا لافتاً كذلك أن الغارة وقعت في نفس المكان الذي استهدف فيه المسؤول السابق لحزب الله عماد مغنية أوائل العام 2008، وكان بصحبته آنذاك مسؤول الحرس قاسم سليماني الذي رافقه مودعاً حتى السيارة حيث أكملا الحديث قبل تفجيرها بمغنية وحده، وبعد عودة سليماني إلى المبنى تنفيذاً لخط أحمر أمريكي من إدارة باراك أوباما منعت اغتياله كشرط لتعاونها الأمني واللوجستي مع تل أبيب في استهداف مغنية.

الآن يتكرر الحديث أيضاً عن تعاون روسي في الاغتيالات الإسرائيلية لمسؤولين وضباط إيرانيين كبار كما جرى مع الجنرال داود جعفري بضواحي دمشق نهاية العام الماضي.

 فضحت الغارة الأخيرة مرة أخرى استخدم إيران شققاً ومباني سكنية ومؤسسات مدنية لأغراض عسكرية ضمن استباحة البلد أو للدقة وسورية الأسد. حيث تتواجد بالمحيط مدرسة دينية أيضاً يتم استغلالها ضمن عسكرة كاملة للسياسات الإيرانية بسوريا والمنطقة والتي يديرها ويهيمن عليها الحرس بشكل تام.

في الدلالات تمثل الغارة ارتقاء درجة في الفعل الإسرائيلي من استهداف التموضع الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن ثم قوافل تنقل معدات ومستلزمات عسكرية ثم منشآت نووية وعلماء داخل إيران نفسها وسفن تهريب بأعالي البحار، ومنشآت عسكرية ومعامل طائرات وصواريخ في إيران نفسها، وأخيراً شقق مدنية لخلايا إيرانية يفترض أنها سرية وغير معلنة.

 في السياق تسعى إسرائيل إلى استغلال عزلة إيران بعد قمعها الوحشي والهمجي للتظاهرات الشعبية كما انخراطها الدموي والإجرامي في الحرب الروسية المجنونة ضد أوكرانيا لحصد دعم وفي الحد الأدنى تفهم إقليمي ودولي للغارات والهجمات الإسرائيلية ضدها. 

أما في التداعيات، فلا خشية من وقوع حرب مباشرة كون الردّ الإيراني كان ولا يزال دعائياً فقط حيث لا يكترث النظام المنفصم والمعزول بالخسائر وهو لم يُصدِر حتى بياناً عن الغارة رغم استهدافها مسؤولاً كبيراً بالحرس، وآخر من ذراعه الإقليمية المركزية بلبنان.

وهذا يعيدنا إلى اغتيال مغنية الذي تم نقل جثته إلى بيروت في نفس الليلة دون أي تحقيق أو إجراءات مهنية جنائية وعدلية – لا تقرير طبياً شرعياً عن وفاته – ثم قام النظام بتنظيف الشارع والمكان وسحب السيارة المدمرة وكأن شيئاً لم يكن وفي الصباح قال أحد القاطنين هناك لصديق سأله عما جرى إن الأمر يتعلق غالباً بانفجار أنبوبة غاز في أحد المحلات أو البيوت بالمنطقة.

هذا نفسه حصل ويحصل الآن كون العقلية لم ولن تتغير لدى إيران والحزب والنظام الذى لم يعلن أيضاً مقتل أحد أعضائه في الغارة الأخيرة. كما لا يمكن تجاهل أمر مهم جداً يتعلق باختراق أمني للمنظومة كلها، تماماً كقصف الشاحنة رقم 8 فقط ضمن قافلة مموهة من عشرات الشاحنات الإيرانية نهاية العام الماضي على الحدود العراقية السورية.

كما العادة أيضاً لا يكترث نظام الأسد بالغارات والهجمات الإسرائيلية طالما بقي في السلطة ولو بدون سيادة فعلية مع تكرار بيانات وكالة سانا المملّة والمبتذلة والتي باتت تخلو حتى من العبارة الممجوجة عن الرد بالمكان والزمان المناسبين، ما يفضح الاعتياد على الغارات وعدم ممانعتها كي يبقى في الحكم ولو صورياً فاقد السيادة والسلطة الفعلية حتى بمناطق سيطرته المستباحة، ويتاجر بكل شيء كما رأينا في فاجعة الزلزال ضمن القاعدة الدموية سيئة الصيت "الأسد أو نحرق البلد"  بينما  يمثل  القصف الإسرائيلي الأخير لمطار حلب الثلاثاء، وإخراجه من الخدمة برهاناً ساطعاً على المعطيات والاستنتاجات الواردة أعلاه. 

التعليقات (2)

    مغترب

    ·منذ سنة شهر
    شكراً للكاتب وجزاك الله خير الجزاء ، لعل الأنظمة العربية تفهم هذا الكلام وخاصة دول التطبيع مع هذا النظام المافياوي السوري أو حتى الدول العربية التي ترغب التطبيع مع الدولة العبرية الإرهابية .

    عائلة الجحش

    ·منذ سنة شهر
    لا اعرف لماذا السورين المواليين يساندون هذه العائلة الاجرامية القذرة التي دمرت سوريا واحرقت الأخضر واليابس وهجرت الولد وباعت البلد .. ألا يوجد ضمير او اخلاق او حس وطني لدى هؤلاء ؟؟؟؟ اين الحس الوطني لدى السورين المنبطحين لعائلة الجحش الاجرامية ... نريد ثورة تنطلق من أهلنا في الساحل لتطهير الساحل السوري من هذه العصابة النجسة .. الساكت عن الحق شيطان اخرس
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات