سيناريوهات التصعيد بين أمريكا المرتبكة وإيران الواثقة

سيناريوهات التصعيد بين أمريكا المرتبكة وإيران الواثقة

بعد أن وصلت الجهود لإحياء الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران إلى طريق مسدود، فُتح باب التكهنات حول سيناريوهات التصعيد المتوقع على مصراعيه، وبناء على معلومات الأدلة راح البعض يتحدث عن اقتراب موعد الضربة العسكرية الأمريكية – الإسرائيلية للمفاعلات النووية الإيرانية على اعتبار أن عمليات التخصيب التي تتقدم بوتيرة متسارعة جعلت إيران تقترب من العتبة التي تؤهلها لحيازة السلاح النووي، إلا أنه رغم الجولات المكوكية لشخصيات عسكرية وديبلوماسية أمريكية وإسرائيلية، يبدو النظام الإيراني غير مكترث بما يحصل؛ فما هو مصدر تلك الثقة الزائدة لدى النظام الإيراني؟

عندما يكون الحديث عن الولايات المتحدة فهو حديث عن نظام ديمقراطي، أي نظام سياسي يخضع لقيود في مجال توظيف الموارد لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، ويثير موضوع الضوابط معضلة النظم الديمقراطية في صنع السياسة الخارجية، وهو ما عبّر عنه حامد ربيع بقوله: "إن النظم الديمقراطية تتسم بعدة خصائص تحدّ من فعالية السياسة الخارجية، أهم هذه الخصائص هي مراجعة ومحاسبة الحكام، والمساواة السياسية بين المواطنين من حيث إمكانية تولي وظائف إدارة السياسة الخارجية بصرف النظر عن معتقداتهم السياسية، وحرية المواطن في النشاط الخارجي دون رقابة من الدولة، وحق المواطن في الحصول على المعلومات وهو ما يفرض مبدأ العلنية الذي يتعارض مع فعالية السياسة الخارجية"، من هنا، تبدو المقاربة الأمريكية لقضية البرنامج النووي الإيراني واضحة لكل من يرغب أن يرى الحقيقة؛ فسقف ردود الفعل الأمريكية لن يتعدى الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية.

في الوقت الراهن، يستند هذا الاعتقاد على عاملين رئيسيين يقيدان صنّاع القرار في الولايات المتحدة؛ أولهما المزاج العام المناهض للحرب في الشارع الأمريكي، ذلك المزاج الذي يطغى على مقاربات الأمريكيين بعد المغامرات العسكرية الفاشلة، وهو ما تجلى بعد حرب فيتنام وعاد للظهور بعد حربي العراق وأفغانستان، ولعل البعض يتذكر أن الرئيس "ترامب" عندما أقال مستشار الأمن القومي "جون بولتون" اتهمه بأنه يريد أن يورّط الولايات المتحدة في حرب، وفي موقف آخر، تداعى "الكونغرس" الأمريكي للحد من صلاحيات الرئيس باتخاذ قرار الحرب بعد قضية تصفية قاسم سليماني بأوامر من الرئيس "ترامب".

أما العامل الثاني، فهو صعود تيار "الانعزالية الجديدة" من حيث هي إستراتيجية كبرى تدعو إلى المشاركة الضرورية، وفي الحد الأدنى مع بقية دول العالم، وتتبع نصيحة جورج واشنطن بتجنب الدخول في تحالفات معقدة، وهذه النظرة لا ترفض التجارة الحرة، ولكنها تدعو إلى التعامل بحذر مع الآليات الحديثة التي تقوّي العولمة وتوقع أمريكا في شبكة معقدة من الالتزامات، وهي تری أن معظم مشكلات العالم ناتجة عن خلافات بين آخرين، ولذلك تفضل تجنبها بدلاً من حلها عبر التدخل المباشر، وفي رأي أنصار الانعزالية الجديدة، فإن المصالح القومية تفسر بشكل ضيّق، والقوة العسكرية تستخدم للأغراض الدفاعية فقط، ووفق هذه النظرة تزدهر الولايات المتحدة بفضل عدم تورّطها في نزاعات القوة، ورغم خسارة الرئيس "ترامب" الذي مثّل هذا التيار خير تمثيل للانتخابات الرئاسية، إلا أن الرئيس "بايدن" أو غيره لا يمكنه تجاوز هذا التيار العريض من الأمريكيين.

من جهة أخرى، ومع تنحية عاملي المزاج العام المناهض للحرب، وصعود التيار الانعزالي في الولايات المتحدة؛ يبقى احتمال توجيه الولايات المتحدة الأمريكية ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية خارج الحسابات الأمريكية، لأن الفكرة تم تصورها في وقت سابق وتبيّن أن مثل تلك المغامرة قد تكون تداعياتها الجيوبوليتكية ومن ثم الاقتصادية مرعبة، علاوة على ذلك، رغم ممانعتها لامتلاك إيران للسلاح النووي تبقى الهواجس الأمريكية حيال هذه القضية مختلفة جداً عن هواجس دول المنطقة وهواجس إسرائيل بالتحديد، فبينما ترى إسرائيل بامتلاك إيران للسلاح النووي تهديداً وجودياً ومدعاة لفتح باب سباق للتسلح في المنطقة قد يجعلها محاطة بأكثر من دولة نووية، تعتقد الولايات المتحدة أن امتلاك إيران للسلاح النووي – إن حصل – يمكن احتواؤه من خلال إعلان الولايات المتحدة على الملأ التزامها برؤية أي محاولة لإخافة أو تهديد جيرانها في الشرق الأوسط تهديداً للولايات المتحدة. وهذا ما اقترحه "بريجنسكي" في كتابه: "رؤية إستراتيجية". 

إذن، فالبيئة الداخلية المناهضة للحرب، والبيئة الدولية المضطربة نتيجة لعجز الولايات المتحدة عن قيادة العالم بمفردها، يفسران الثقة بالنفس التي يبديها النظام الإيراني حيال ما يبدو أنها تهديدات أمريكية، فهي ترد على تلك التهديدات برفع مستوى تخصيب اليورانيوم لديها لتصبح على بعد أيام من العتبة المطلوبة من التخصيب التي تمكنها من تصنيع السلاح النووي، وبناء عليه فسيناريوهات التصعيد قد تأخذ عدة اتجاهات:
-    تفضل إيران الوصول إلى اتفاق يلبي رغباتها عن كونها دولة نووية معزولة مثل كوريا الشمالية. لذلك، هي تنتظر من الولايات المتحدة أن ترضخ لشروطها أو لجزء من هذه الشروط لتعود إلى المفاوضات والتوقيع مرة أخرى، وهو الأرجح.
-    بعد أن انحازت إيران لروسيا في حربها ضد أوكرانيا أصبحت القضية أكثر تعقيداً، فلا بد من تأديب إيران ربما عن طريق إعادة تفعيل إستراتيجية الضغوط القصوى التي مارسها الرئيس السابق "دونالد ترامب".
-    تحت الضغوط الإسرائيلية المتصاعدة قد تسمح الولايات المتحدة لإسرائيل بتوجيه ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية على اعتبار أن مثل هذه الضربة قد تكون تداعياتها الجيوبوليتكية والاقتصادية أخف حدة على أن تتحمل إسرائيل وحدها التبعات.
-    في حال تمت الموافقة على عمل عسكري، قد تقنع الولايات المتحدة إسرائيل بالاكتفاء باستهداف الوجود الإيراني في سوريا بوتيرة متصاعدة تصل إلى مستوى الاجتثاث.
أخيرا، ستبقى الإستراتيجية الأمريكية المعلنة والمكشوفة للجميع مصدراً للإرباك الذي سيلاحق الإدارات الأمريكية المتلاحقة، ومصدراً لفقدانها الهيبة، ليس أمام إيران فقط، بل أمام معظم الأصدقاء والأعداء، وبالتالي: سيبقى العالم مرتبكاً ما دامت أمريكا مرتبكة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات