عن التطبيع ومخاوف السوريين

عن التطبيع ومخاوف السوريين

علق في الأذهان منذ عدة عقود أن التطبيع مرادفة مخصصة لوصف أي حركة تصالح أو تقارب في العلاقات مع الكيان الصهيوني، وهو ما دفع بعض المحللين السياسيين الناطقين بلسان حكوماتهم للاعتراض على هذا المسمى في معرض حديثهم عن موجة التطبيع بين بعض الأنظمة العربية والإقليمية والنظام السوري، والذي أصبح الشغل الشاغل لوسائل الإعلام ولدوائر صنع القرار على المستوى الإقليمي، فالأحرى من وجهة نظر المعترضين أن يُقال إعادة العلاقات بين الأشقاء أو ما شابه ذلك. 

بمنظور السوريين يُعتبر مصطلح "تطبيع العلاقات" تعبيراً مخادعاً لوصف مسار أقل ما يقال فيه: إنه عهر سياسي، أو دعارة سياسية. ذلك أن النظام السوري يصور ما يحصل على أنه الحلقة الأخيرة من مسلسل التغريبة السورية الذي ينتهي بنموذج البطل المأساوي التراجيدي. يغذي محاولة الإيحاء تلك بعض التحليلات العاطفية التي يشوبها النزق وضيق الأفق مدعومة ببعض المقولات التي يروجها الطابور الخامس بفرعيه: الطابور الخامس المجند، والطابور الخامس المكون من أولئك المبرمجين على إثارة الشكوك والقلائل دون أن يقصدون ذلك. 

في الأحوال العادية يتابع بعض الناس البرامج التي تهتم بالتحليل السياسي بدوافع مختلفة؛ أهمها الشعور بحاجة قوية لفهم العالم الذي يعيشون فيه. أما عندما يكون مصير الناس متعلقاً بحدث ما، أو لنقل بقضية معينة يصبح الاهتمام بالتحليل السياسي من قبل شريحة أوسع وبدوافع مختلفة، حيث يصبح الدافع الرئيسي للاهتمام بالتحليل السياسي هو الوصول إلى أفضل الخيارات من بين عدة بدائل متاحة. أي لأنهم يريدون التصرف بحكمة بناء على المعلومات والتخمينات التي تُقدَّم لهم من قبل الخبراء والمتخصصين بالتحليل السياسي، وهذا يعني أن امتهان التحليل السياسي ينطوي على جانب أخلاقي يجب مراعاته. ويُقصد بذلك: تجنب إثارة الذعر بين الناس، حيث لا يوجد ما يدعو إلى ذلك، وعدم المبالغة في طمأنتهم عندما يكون الأمر بحاجة إلى تحذيرهم.

ضمن هذا السياق يمكن القول: إن قطار التطبيع المنطلق اليوم إنما يتحرك بوقود روسي بهدف تحويل منطقة الشرق الأوسط التي تراجعت أهميتها في سلم الأولويات الأمريكية إلى ساحة مشاغلة من ناحية أولى، وإلى ساحة تستطيع روسيا من خلالها أن تقول إنني ما زلت روسيا التي تعرفونها قبل حرب أوكرانيا من ناحية ثانية. وفيما عدا ذلك فالمسار محكوم عليه بالتعثر لعدة أسباب أهمها:

1 - العقوبات الأمريكية والغربية بشكل عام، والتي ستجعل التطبيع -إن حصل- محصوراً في شقه السياسي والدعائي.

2 – تعنت النظام السوري ورفضه تقديم أي تنازل يكون بمثابة مادة يحفظ بها المطبِّع ماء وجهه. 

3 – غياب المباركة من قبل الدول الكبرى، إن لم نقل اعتراضها على هذا المسار.

من جهة ثانية، ومع افتراض أن تلك العقبات تم تجاوزها؛ تبقى المخاوف التي تصل إلى مستوى الذعر أحياناً بعيدة جداً عن الواقع وعن المنطق، لأن السناريوهات المتخيلة مستحيلة التحقق، فعلى سبيل المثال يستحيل انسحاب القوات التركية من المناطق التي تسيطر عليها، لأن ذلك سيعقبه اجتياح أكثر من ثلاثة ملايين إنسان للحدود التركية طلباً للجوء. في المقابل لا يمكننا تصور انسحاب القوات التركية بالتزامن مع إغلاق للحدود، بمعنى تسليم ملايين البشر للذبح دفعة واحدة على مرأى العالم ومسمعه، فتلك جريمة لا يمكن لأي نظام سياسي احتمال تبعاتها الأخلاقية والقانونية. وينسحب ذلك على موضوع إعادة اللاجئين قسراً؛ كل ذلك يدخل في تصنيف المستحيلات. ولتجنب الخوض في تفاصيل تعقيدات هذه السناريوهات المتوهمة يمكن للمرء أن يتذكر أن الحكومة العراقية المعروفة بتبعيتها للنظام الإيراني لم تتمكن من طرد مجاهدي خلق من العراق إلا بعد خمس سنوات من المحاولة، وقد تم ذلك بموجب اتفاق مع الأمم المتحدة التي وفرت لهم ملاذاً آمناً.

ولكن، ماذا لو انسحبت القوات التركية من المناطق التي تسيطر عليها مع وجود ضمانات دولية موثوقة بأن النظام السوري عندما يدخل هذه المناطق لن يتعرض لساكنيها بأي شكل من أشكال الأذية؟ عن هذا السؤال يمكن الإجابة بسؤال آخر: هل يقبل النظام السوري ذلك؟ بمعنى آخر، تحت أي بند سيقبل النظام السوري العاجز عن تأمين أدنى متطلبات الحياة للسكان المقيمين في المناطق التي يسيطر عليها أن يضيف إلى هذا العدد تلك الملايين التي تقيم في المناطق الخارجة عن سيطرته؟ وعلى هذا المنوال عندما يتم مناقشة السيناريوهات المتخيلة من كافة وجوهها سرعان ما نصل إلى نتيجة مفادها: أن كل التصورات التي تثير الذعر في نفوس السوريين هي محض خيال، وهي تندرج في إطار الحرب النفسية الموجهة إلى الشعب السوري.

أخيراً، ولكي يبقى التحليل متوازناً؛ لا يمكننا النظر إلى كل تلك التطورات التي تشهدها القضية السورية بأنها لا شيء، وأن الأمور على خير ما يُرام. بل على العكس تماماً، فالتقدُّم للنظام السوري في مقابل التراجع لقوى الثورة والمعارضة والذي بدأ مع التدخل العسكري الروسي ما زال مستمراً. أي، ما زال موقف النظام يزداد قوة عن طريق تراكم النجاحات رغم محدوديتها، وما زال وضع قوى الثورة والمعارضة يزداد ضعفاً، وإن استمرت الأمور على هذا المنوال؛ قد يصل النظام السوري إلى ما يصبو إليه خلال عقد أو عقدين من الزمن، إلا إذا كان للسوريين رأي آخر. 

التعليقات (2)

    وضاح فضل الله

    ·منذ سنة 3 أسابيع
    سيكون لهم رأيٌ أخر. الشعب السوري في حالة من رفع الوعي السياسي ....، صحيح أن ذلك الرفع يسير ببطء، إلا أنه له أثر في فهم ما يجري على الأقل.

    ديبو الديبو

    ·منذ سنة 3 أسابيع
    احلى الشي... وهذا يعني أن امتهان التحليل السياسي ينطوي على جانب أخلاقي يجب مراعاته... شكراً لك
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات