إعدام الكتب حرقاً وإغراقاً وتمزيقاً ودفناً!

إعدام الكتب حرقاً وإغراقاً وتمزيقاً ودفناً!

 ربما يكون بيت شعر المتنبي أحمد بن الحسين الذي ذاع ذكره أشهر بيت عن الكتاب:

أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ 

وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ

ولعل قصيدة "الكتاب" لأمير الشعراء أحمد شوقي تعطي الكِتَاب حقَّه، وتكاد تكون أطول ما قيل في الكتاب، فقد جاءت القصيدة في أكثرَ من سبعين بيتاً، وفيها يقول:

أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا

لَم أَجِد لي وافِياً إِلا الكِتابا

صاحِبٌ إِنْ عِبتَهُ أَو لَم تَعِبْ

لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا 

أمّا الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، فيقول في ثنائه على الكتاب، وتعداد فوائده:

"الكتَابُ هُو الجَليسُ الذي لاَ يُطريكَ والصَّديقُ الذي لَا يُغريكَ، والصَّاحبُ الذي لاَ يُريدُ استخرَاجَ مَا عندَكَ بالمَلَق.

الكتَابُ لاَ يُعَاملكَ بالمَكر، ولاَ يَخدُعكَ بالنّفَاق، ولا يحتَالُ عَلَيكَ بالكَذب.

الكتَابُ هُوَ الذي إن نَظَرتَ فيه أطَالَ إمتَاعَكَ، وشَحَذَ طبَاعَكَ، وبَسَطَ لسَانَكَ، وجَوَّدَ بَنَانَكَ، وفَخَّمَ أَلفَاظَكَ، وبَحبَحَ نَفسَكَ، وعَمَّرَ صَدرَكَ، ومَنَحَكَ تَعظيم العَوَام، وصَدَاقَةَ المُلُوك"

الكلّ يجمع على أن الكِتاب خير صديقٍ وجليسٍ للإنسان لا يخشى غوائله، فهو يؤدبه بآدابه، ويؤنسه عند الوحشة بحكمه، وهو كما يقول كافكا: "فأس للجليد يكسر التجمدات حول أرواحنا".

 هو يجلب المتعة والفائدة للقارئ ويصقل العقل والتفكير، بل يمكن القول: إن تاريخ الكتاب هو تاريخ العقل والفكر.

 الكتاب عصارة تجربة وفكر، وما كتبه المؤلف وطرحه للنشر والقراءة يتحمل وحده مسؤوليته، ويمكن أن يورده مورد الهلاك، كما حدث لدى كثير من الأدباء والمفكرين.

 الكتاب أكبر عدوٍ للطغاة والمستبدين الذين يسعون جهدهم لإبقاء الشعب في حلكة الجهل والظلام، ولذلك برع الطغاة في إعدام الكتب حرقاً وتمزيقاً ودفناً وإغراقاً!

كم من كاتبٍ هلك بسبب ما كتب!

 والشواهد على ذلك كثيرة :عبد الله بن المقفع صاحب "كليلة ودمنة" الذي ألّف كتاب "رسالة الصحابة" وهي مخطوطةٌ تتضمّن النصح، فيما يتعلّق بإصلاح شؤون الإدارة في الخلافة، والقضاء على الفساد بين الحاشية والجيش والقضاء، فقد تمّ استدعاؤه إلى العاصمة بغداد، وقُطعت يدُه اليمنى، وتمّ شيُّها على النار، وأُرغم على أن يأكل منها قبل أن يُقتل، وكان ذلك في عصر الدولة العباسية، في عهد أبي جعفر المنصور!

كما لاقى الحلّاج المتصوّف الكبير المصير نفسه، فقد ضُرب ألف سوطٍ، وقُتل، وقُطّعتْ أطرافُه الأربعة، وذرّ الرماد في نهر دجلة بعد إحراقه، وتم منع وإتلاف كتبه، وهي تزيد على الخمسين كتاباً، ولم يصلنا منها سوى كتاب "الطواسين".

وغير بعيدٍ عن ذلك ما لحق بالشاعر والوزير الأندلسي لسان الدين بن الخطيب، فقد اُتهم بالزندقة والإلحاد، ولاسيما في كتابه "روضة التعريف بالحب الشريف" وهو كتاب في التصوّف ألّفه للسلطان محمد الغني بالله، فتمّ القبض عليه بعد فراره إلى المغرب، وخُنق وحُرق ودُفن في مدينة فاس، بعد أن قام القاضي النباهي بإحراق كتبه في ساحة غرناطة ومصادرة أملاكه.

كثرٌ من الكُتّاب قُتلوا، وكثيرٌ من الكتب أُحرقت وأُغرقت ومُزّقت ودُفنت منذ القديم حتى الآن من قبل السلطة الدينية والسياسية القائمة بتهم مختلفة، ولكنّ هناك كُتّاباً هم الذين تخلصوا من كتبهم، ولم ينتظروا السلطة السياسية والدينية لتقوم بهذا الأمر، ومن هؤلاء أبو حيان التوحيدي صاحب كتاب "الإمتاع والمؤانسة" فقد أحرق كتبه في أواخر عمره بسبب الفقر، وخشية أن يأتي بعد وفاته مَن لا يقدّرها، ولأن الكتب لم تنفعه، كما رأى، ولم ينجُ من كتب التوحيدي غير ما نُقل عنه، أو تمّ نسخه، ومن طريف ما يُروى في هذا الصدد أن النحوي علي بن عيسى الشيرازي الربعي ألَّف شرحاً على كتاب سيبويه، ولكنَّه أتلفه بنفسه، وذلك بسبب أن أحد التجار جادله في مسألة، فأخذ الشيرازي الربعي شرح سيبويه، وجعله في إجّانة (إناء لغسل الثياب)، وصبّ عليه الماء وغسله وجعل يُقطعه ويلطم به الحيطان، ويقول: لا أجعل أولاد البقّالين نُحَاة.

وبسبب تضييق السلطات القائمة في عصرنا الحديث على الحريات والنشر أصبح مجرد اقتناء كتاب ممنوع جريمةً قد تودي بصاحبه إلى غياهب السجون إذا كان محظوظاً ولم يهلك بسببه، لذلك عمد كثيرٌ من المعارضين إلى إحراق كتبهم، لكيلا تقع بأيدي أجهزة السلطة الأمنية، وتكون دليل إدانةٍ لهم.

من الجدير بالذكر أن هناك بعض الكُتّاب خصصوا كتباً لتناول ما تعرّض له الكِتَاب منذ أقدم العصور، ورصدوا إعدام الكتب، ومن هؤلاء: 

الشاعر والكاتب اليمني محمد عبده العبسي في كتابه "إعدام الكتب" الذي يرصد فيه ما حدث من إعدام للكِتَاب شرقاً وغرباً في التراثين الإسلامي والمسيحي، ويتعدّى ذلك إلى التحريض على المؤلفين وحرقهم وقتلهم.

يورد العبسي في كتابه أمثلةً وشواهدَ كثيرةً على إعدام الكتب، ومَن قام به سواء أكان الفاعل هو الحاكم من المنظومة الدينية والسياسية، أو من الكنيسة ومحاكم التفتيش، أو القاعدة وداعش وأخواتهما في العالم الإسلامي والجماعات السياسية والتكتلات.

يتحدّث العبسي في كتابه عن حرق المكتبات وما حدث من استهداف المكتبة الوطنية العراقية إبان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ويرى بأن حرق المكتبة الوطنية المتعمّد، لا يقلّ همجيةً عن استهداف التتار بقيادة هولاكو مكتبة بيت الحكمة في بغداد قديماً، حيث قيل بأن مياه نهر دجلة اصطبغت بالسواد سبعة أيام بسبب الحبر، وتُعدّ حادثة حرق مكتبة بغداد العلمية على يد التتار أعظم جريمة بحق الكتاب والمكتبات في التاريخ، يقول القلقشندي في ذلك في كتابه "صبح الأعشى": (يقال إن أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن إحداها خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد، إذ كان فيها من الكتب ما لا يُحصى كثرة، ولا يقوم عليها نفاسة، ولم تزل على ذلك إلى أن داهمت التتار بغداد، وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر خلفائهم ببغداد، فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب، وذهبت معالمها وأعفيت آثارها).

وعلى مدى التاريخ حصلت ويلات ونوائب لمكتبات شامخة مثل مكتبة آشور بانيبال، ومكتبة القسطنطينية، ومكتبة قرطبة، ومكتبة الإسكندرية، ومكتبة الموصل وغيرها.

المكتبات هي ذاكرة الشعوب، فلا عجب ولا غرابة أن يقوم المستعمر بحرقها، وهدفه حرق ذاكرة الأوطان وإذابة هويتها، فالكتب والمؤلفات والمصنفات هي الشاهد على حضارة الشعوب ومدى تطورها.

ومنذ بدايات التاريخ حتى وقتنا الراهن لحقت بتاريخ البشرية كوارثُ من جرّاء حرق المكتبات وإتلاف ملايين المخطوطات، وقد عبّر عن ذلك الدكتور خالد السعيد في كتابه "حرق الكتب" عن الخسائر الباهظة بحرق المكتبات، وقال بما معناه:

(المكتبات لو سلمت من حماقات البشر ونيرانهم الحاقدة، لتكشّفت لنا أمورٌ مخفية، ولوقفنا على أسرار منسية).

ومن الكُتّاب الذين رصدوا حرق الكتب، الكاتب ناصر الحزيمي في كتابه "حرق الكتب في التراث الإسلامي"

والذي سرد فيه حوادث حرق الكتب وإغراقها في التاريخ الإسلامي.

رصد الحزيمي في كتابه أشهر العلماء والمؤلفين الذين أتلفوا كتبهم، وقد بلغوا سبعةً وثلاثين كاتباً من بينهم ابن سينا والماوردي والتوحيدي، وسعيد بن جبير، وأبو عمرو بن العلاء، وسفيان الثوري.

ويذكر الحزيمي أن طرق إتلاف الكتب تم بأربع طرق، وهي التي حددها محمد العبسي كذلك.

ورأى الحزيمي أن إتلاف الكتب وإعدامها لم يمنع عامة الناس والعلماء من قراءتها ودراستها، علناً أو سرّاً، بل إن إحراق الكتب أعطى مضامينها أهميةً كبيرة.

في اليوم العالمي للكِتَاب الذي يصادف في الثالث والعشرين من نيسان من كل عام، والذي أقرّته منظمة اليونسكو، ويهدف اليوم العالمي للكِتَاب إلى إبراز مكانة المؤلفين، وأهمية الكتب على الصعيد العالمي، ولتشجيع الناس عموماً والشباب على وجه الخصوص، على اكتشاف متعة القراءة واحترام الإسهامات الفريدة التي قدّمها أدباءُ دفعوا بالتقدّم الاجتماعي والثقافي للبشرية إلى الأمام.

في اليوم العالمي للكتاب، العالم كله وخاصةً العالَم العربي أحوج ما يكون إلى القراءة وإلى أخذ الكتب بقوة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات