نموذج حلب.. "مشروع مارشال تركي" أم سوق للتجارة باللاجئين؟

نموذج حلب.. "مشروع مارشال تركي" أم سوق للتجارة باللاجئين؟

لم يأتِ "نموذج حلب" الذي قرّرت أن تشتغل عليه الآن تركيا، والذي نشرت بعض تفاصيله صحيفة صباح التركية، خارج سياق ما قرّرته السلطات التركية أصلاً وعلى نحو نهائي، فيما يتعلق بملف اللاجئين السوريين على أراضيها، والذي أساسه طيّ ملف اللاجئين - الذي صار يشكّل صداعاً للحكومة التركية -، وتهيئة مزيد من المعطيات والظروف التي تراها مواتية ومناسبة لترحيل أكبر عدد منهم إلى مناطق شمال سوريا، سواء تلك الخارجة عن سيطرة النظام، أو حتى تلك التي تحت سيطرته وتقع ضمن الحيّز الإداري الأشمل لمحافظة حلب، وهذا الجزء تحديداً هو ما يُقصد به "نموذج حلب"، بمعنى أن هذا الجزء المتعلق بتلك المدينة وبعض توابعها الإدارية والتي ما تزال خاضعة لسلطة النظام السوري، سيتم الاشتغال عليه بالتفاهم مع النظام نفسه وبدعم من الروس، والذي يمكن أن يشكّل سابقة أو نموذجاً يمكن تعميمه فيما بعد على بقية المناطق التي يتحدر منها بقية اللاجئين الموجودين في تركيا، والتي أيضا تقع تحت سلطة نظام أسد. 

إذاً من الواضح تماماً أن تركيا تسعى بشكل حثيث لتوفير كل الوسائل والسبل لإنجاز قرارها بطيّ ملف اللاجئين السوريين فيها، وعلى نحو نهائي، خلال بضع سنوات، ربما لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، ولأجل تحقيق هذا الهدف فهي لا تكفّ عن طرق أبواب النظام سعياً لخلق حالة تصالح معه وإهدار كل مواقفها السابقة منه، في مقاربة عجائبية تقوم على فكرة غاية في السوء، وغاية في اللامبالاة بمصائر السوريين الذين لا يمكن أن يكون النظام نفسه -وهو الذي فتك بهم وتسبّب في تهجيرهم- هو نفسه المُستأمَن على أمنهم وسلامتهم وحيواتهم، لمجرد أنه يقدّم ضمانات مفترضة بذلك!!!.

هذا على الأقل ما تشي به القراءة الأوّلية لهذا النموذج، الذي إن توفرت الظروف لتطبيقه فعلاً فإنه بمثابة قُبلة الحياة للنظام السوري، باعتبار أن جذر هذا النموذج يركّز على إعادة إحياء محافظة حلب وإنعاشها اقتصادياً، ما يوجب قبلاً إعادة تهيئة البنى التحتية ومختلف الخدمات اللازمة لعملية الإنعاش، كإعادة إعمار المناطق المدمّرة وتوفير كافة العناصر اللازمة لإطلاق وتفعيل الحركة الإنتاجية والصناعية كالكهرباء والماء والإنترنت، بما يوفّر ظروفاً مواتية لإعادة سكان تلك المناطق إلى مدنهم وبلداتهم وتوفير المساكن وسبل العيش والعمل لهم، بما يشكّل نموذجاً يُحتذى به ويمكن تطبيقه على بقية المناطق الأخرى التي ينحدر منها بقية اللاجئين السوريين، بما يشبه مشروع "مارشال" مصغّراً، والذي لن يكون بالطبع بتمويل تركيا لأنه يفوق طاقتها وإمكاناتها الاقتصادية، وإنما غالباً سيكون بتمويل عربي خليجي في المقام الأول.

هذا النموذج يدفعنا لإثارة ملاحظتين على الأقل مبدئيا.. الأولى تتعلق بالقوانين ولوائح العقوبات الأمريكية المشرعة في وجه النظام السوري والدول والكيانات التي تقدّم عوناً اقتصادياً له أو تتعامل مع المؤسسات والكيانات والأشخاص الذين أُدرجوا ضمن القوائم السوداء الأوروبية والأمريكية، وهل سيُعتبر هذا النموذج التفافاً على تلك العقوبات وستقوم الولايات المتحدة بمواجهته باعتباره يقوّي شوكة النظام ويساهم في إعادة تأهيله وتعويمه ويعزّز النفوذ الروسي والإيراني في سوريا؟، أم سيتمّ اجتراح فتوى قانونية أمريكية بشأنه؟، خصوصاً أن الولايات المتحدة نفسها لم تفعل شيئاً يُذكَر طيلة عقد كامل لتغيير هذا الواقع، واكتفت بسياسة العزل والمناكفة فحسب، ما يعطي مبرراً لبقية القوى الإقليمية لفعل ما تراه في خدمة مصالحها التي ترى أنها ليست ضمن حسابات الأمريكان أصلاً  .. سؤال لا نملك إجابة قاطعة بشأنه، لأن الجواب باعتقادي معلّق على تطورات الموقف الأمريكي من سياسات طهران والاتفاق النووي معها، أكثر مما هو مرتبط بمصالح وحقوق الشعب السوري.

 والملاحظة الثانية تتعلق بالموقف التركي من المسألة السورية برُمّتها بعد التحوّلات الجذرية التي اتبعتها الحكومة التركية في مختلف السياسات، والتي صارت على الضدّ والنقيض الكامل من مواقفها السابقة، فهي كما هو واضح من مختلف السياسات والتصريحات التركية لم تعد ترى (الأسد) قاتلاً لشعبه وفاقداً لشرعيته ويتعيّن مساءلته عما ارتكبه من جرائم، وأن عليه أن يدفع ثمن ذلك... إلى آخره من تلك الشعارات التي سرعان ما تبخّرت، وصار لقاء الأسد هدفاً، والتنسيق معه لمحاربة (الإرهاب)، وتأمين عودة اللاجئين السوريين مسألة مُرتجاة!.

 لكن المُوجع في تلك السياسة ليس فقط أنها سياسة دولة تبحث عن مصالحها - كما يحلو للبعض تبريرها بتزيين المصائب أو تزييف آثارها إن شئت - وإنما تلك المصادرة الشاملة والكاملة لقرار أدوات المعارضة السورية المدجّنة التي لا تجرؤ أن تنبس ببنت شفة بشأن قضية السوريين فقط وليس بشأن السياسة التركية نفسها!، وافتراض أن رفض المواقف والسياسات التركية المتعلقة بمستقبل القضية السورية ومستقبل السوريين أنفسهم هو نوع من التمرّد على الدولة التركية نفسها، وهو وهم يأسر هؤلاء المعارضين ويجعلهم مجرد أدوات رخيصة لتنفيذ سياسات تركيا التي تخدم مصالحها وحدها، ولو كانت تلك السياسات لا تقيم وزناً لمصالح عموم السوريين وتدمّر فرصهم في التغيير وحقّهم في رفض التعايش مع النظام الذي انتهك حقوقهم وأعراضهم واستباح أموالهم وحياتهم.

"نموذج حلب" ليس إلا نموذجاً فاقعاً لانتهازية سياسية جعلت السوريين رهائن حسابات القوة والمصالح الإقليمية والدولية التي لا قيمة لحقوقهم فيها طالما أنهم لم يمتلكوا - أو أنهم فرّطوا بعناصر- قوتهم الذاتية، فالحقوق تسقط وتُهدَر ويتمّ استباحتها طالما بقيت بلا قوة تحميها أو تدافع عنها، وهو بالقطع ليس نموذجاً يُحتذى لبناء سلام مستدام في سوريا.  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات