ليس الجوع وحده من حرّك السويداء

ليس الجوع وحده من حرّك السويداء

يبدو أنه لا تراجع عن الاحتجاجات في محافظة السويداء، وساحة الكرامة تستقبل المزيد من المتظاهرين، الذين يبدوا أنهم حسموا أمرهم هذه المرة، ليس كما في المرات الماضية، لكن رُبما الظروف تقف في وجههم، حيث نفذوا إضراباً كاملاً وأغلقوا مقارّ للبعث في محافظتهم، ومما زادهم حماسة أن المرجعية الدينية اتخذت موقف المؤيد معهم، نساء وفتيات السويداء يُشاركن بكثافة هذه المرة، فالجوع اتحد مع تداعيات العنف، وصدحت حناجرهن بالأغاني والزغاريد والمطالبة بالحرية للمعتقلين والمعتقلات، والأوضاع المعيشية التي عصفت بكل شباب سوريا وصلت للسويداء وأصبح أمامهم طريق وحيد هو سلك طريق الهجرة، كما حصلوا على تضامن كبير من عدد من المحافظات السورية الأخرى. 

الواضح أن كل المتظاهرين يطالبون بتطبيق القرار الدولي 2254، وتحقيق الانتقال السياسي، وتجنيب البلاد مزيداً من القتل والفتن والدماء، والحراك الشعبي يتوقع أن يستمر دون توقف، خصوصاً أن كل القوى السياسية والاجتماعية متفقة على الاستمرار رغم التجييش وبث الشائعات للتفرقة وإنهاء الإضراب والاعتصامات، خاصة وأن الحديث يدور حول تشكيل لجنة لتنظيم الحراك الثوري في السويداء وقيادة التظاهرات، ستتألف من شخصيات من مختلف مكونات المحافظة، مع الرفض لتدخل أيّ طرف بينهم.

من طرف آخر، هل ما يحصل في سوريا هي ثورة جياع؟ خلال الأعوام العشرة الماضية التي طحنت البشر والحجر في سوريا، أيضاً كان هناك جوع، بالرغم من انخفاض قيمة الليرة السورية أمام العملة الأجنبية، وكانت الأسعار آخذة في الارتفاع، وهواجس الناس تكبر معها مع مستقبل البلاد وأبنائهم وحياتهم ومشاريعهم، ومنهم من أعلن أن شبح الجوع قريب منهم، فتشرد السوريون هائمين على وجوههم في كل بقاع الأرض هرباً من الموت بالرصاص أو من الجوع، حينها كانت مئات عناوين المقالات والدراسات تقول إن الجوع سيكون المحرك الأساسي للحراك الشبابي، وأن الجوع سيقوم بثورته قريباً، لكن الجوع بقي دون أن يُشعل ثورته أبداً.

وردت في أحد كُتب التاريخ مروية تقول " إن أول ثورة في التاريخ كانت ثورة جياع حصلت في مصر ضد الملك بيبي الثاني، بسبب الفقر والجوع وتردّي أحوال البلاد في عهده، وكان قد بقي مدة طويلة في الحكم وكذلك ثورة الحرافيش في مصر المملوكية، وثورة الزنج في التاريخ الإسلامي، والثورة الأشهر في التاريخ الحديث، الثورة الفرنسية أيام ماري أنطوانيت" كُلها كانت ثورات بفعل الجياع، وفي الدول العربية أيضاً لا يُمكن إنكار أن الجوع كان أحد الأسباب التي حركت الشارع العربي، بل إن تراكم الجوع والفقر واتحاده مع الحرمان والضعف وقلة الخدمات وخنق الحريات، شكلت معاً سببا رئيسا في تحريك الشارع العربي والسوري منه بقومياته الكردية والعربية والآشورية، وإذا كان الجوع هو المحرك، فإن ثروات البلاد كانت تزداد ولا يتم صرفها لتوفير مستلزمات الناس، فكان النهب والفساد هو العنوان الأبرز للحياة في تلك البلاد. 

اليوم في السويداء ثمة جوع، هو جوع كل السوريين، بما فيهم المؤيدون أنفسهم، كُلهم جائعون، لكن ليس جوع المعدة فقط، هو الجوع للحرية ولسوريا وللحياة، وكلهم فقدوا أبناءهم في الحرب أو طرق الهجرة واللجوء، أو حُرموا من رؤية أبنائهم بعد وصولهم لدول اللجوء، هؤلاء صرفوا الملايين من الليرات السورية حتى أوصلوهم إلى مراتب علمية عالية، ثم صرفوا الملايين ايضاً حتى أخرجوهم من دوائر الموت والجوع. ما يحصل في السويداء وإدلب والقامشلي والساحل السوري، يخرج عن سياق الجوع وحده، وإن لم يكن الفقر والجوع خارج أسباب تلك التظاهرات أو أحد مُحركاتها، لكن المحرك الأساسي هي الحريات والديمقراطية والخلاص وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بسوريا، فالجوع ليس سوى واحد من العناصر الأساسية التي تدفع الناس صوب سلوكيات رافضة لواقع الحال، لكن ليس الفاقة وحدها ما يرنو لإلغائها المتظاهرون. الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وسوريا الجديدة الخالية من العنف والقتل على الهوية، وكل الشعارات التي أطلقت في بداية الحراك عام 2011.

الحرية والديمقراطية، هي فقط التي تُبهج القلب بعد سنين القحط والفقر والحرمان والظلم والقتل وطرد السوريين من ديارهم، فما زالت الذاكرة السورية مثقلة بالأوجاع والهموم، وهاهم السوريون يُميطون اللثام عن شغفهم من جديد.

 ما يحصل في السويداء وباقي المحافظات، ليس لأجل الجوع وحده، وإن كان هو أحد الأسباب المحركة، لكن هدر الكرامات والاستهزاء بمستقبل الأبناء والاستمرار في تمييع العلمية السياسية الدستورية، والرغبة في البدء بسورية الجديدة، كُلها تشترك في محركات ذلك الحراك.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات