إفريقيا تغير جلدها من باريس إلى فاغنر.. هل انتهى عصر الهيمنة الفرنسي؟

إفريقيا تغير جلدها من باريس إلى فاغنر.. هل انتهى عصر الهيمنة الفرنسي؟

خلال الأشهر الماضية شهدت القارة الإفريقية تحولات واضحة على صعيد العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، تمثلت بشكل أساسي في الانقلابات العسكرية في كل من مالي (آب 2020) وتكرر (شباط 2022)، ثم تشاد (نيسان 2021) وغينيا (أيلول 2021) وبوركينا فاسو (كانون الثاني 2022) وآخرها الانقلاب العسكري في النيجر (تموز 2023).

والملاحظ أن جميع هذه الانقلابات متشابهة من حيث الشكل والوعود التي أطلقتها بالعودة للحياة الدستورية بعد تحقيق الاستقرار والأمان في البلاد وكذلك بموقف الغرب منها.

ورغم أن إفريقيا - وإن كانت معتادة على الانقلابات وحكم العسكر وتشبه بلدان الشرق الأوسط بشكل كبير من حيث طبيعة الحكم- إلا أن معظم دولها شهدت فترات هي الأطول لبقاء رئيس في السلطة، ومعظم هؤلاء جاؤوا بانقلابات عسكرية دموية تسببت بعضها بحروب أهلية استمرت لأعوام، ما أدى لتراجع الاقتصاد وانتشار الفقر وتدني معدلات التنمية ومستويات دخل الفرد.

ومع غنى إفريقيا بالثروات الطبيعية والباطنية، وتمتّعها بوجود يد عاملة رخيصة، إلا أن شكل وخطاب قادة الانقلابات الحالية فيها كان مختلفاً من حيث العلاقة مع الغرب، ولعل الأسباب التي جعلتها مطمعاً أوروبياً باكراً مع بداية المشاريع الاستعمارية التوسعية في أوروبا وأصبحت الهدف الأول لها، هو ما تملكه من ثروات طبيعية وبشرية. 

فقد تحولت البلاد إلى مستعمرات أوروبية لعقود من الزمن، وعلى الرغم من خروج الدول الغربية منها إلا أنها بقيت مناطق نفوذ لها، وهو ما يفسر تسابق السلطات في تلك الدول لنيل الرضا والقبول بتدخلاتها، وتعتبر فرنسا الدولة الأكثر وجوداً في إفريقيا والأكثر نفوذاً عبر التاريخ.

كما إن رعاية الدول الأوروبية للأنظمة الاستبدادية هناك والاستفادة من ثروات تلك الدول خلقت مناخاً رافضاً لوجودها، على الرغم من أنها فرضت لغتها على معظم تلك الدول، ما جعل المناخ الرافض للهيمنة الأوروبية يبدأ بالتصاعد ويخلق مزاجاً شعبياً وتياراً رافضاً لتلك الهيمنة.

ولأن التغيير عبر الوسائل السلمية في بلدان حكمتها أنظمة استبدادية لعقود من الزمن أمر صعب ويحتاج لفترات طويلة وعمليات تحضير وتثقيف مجتمعي، فالتغيير يحتاج إلى وعي مجتمعي وأرضية اقتصادية وتشريعية وقانونية ملائمة، وهو ما تفتقده معظم تلك الدول، لذا جاء هذا التغيير على الطريقة الإفريقية التقليدية، عبر انقلابات عسكرية لكنها تحمل هذه المرة خطاباً مختلفاً تجاه الدول الأوروبية.

البداية من مالي

وتعتبر مالي منطقة نفوذ فرنسية باميتاز، إذ احتلتها فرنسا عام 1892، ورغم استقلالها عام 1960 إلا أنها بقيت مرتبطة معها باتفاقيات اقتصادية وسياسية وتجارية وقانونية تحد من قدرة الحكومات المتعاقبة.

ومع تدهور الحالة الاقتصادية للبلاد وتنامي الرفض الشعبي للوجود الفرنسي، قام الجيش المالي بانقلاب في عام 2020 على الرئيس أبو بكر كيتا، وبعد نجاح الانقلاب بدأت العلاقات تتوتر مع حكومة باريس، وبدا أن هناك إستراتيجية لدى قادة مالي الجدد تقوم على خروج فرنسا كلاعب أساسي من مالي، وهو ما حصل لاحقاً، إذ أعلنت فرنسا خروج آخر جنودها من هناك منتصف آب/اغسطس 2022.

وفي تصريح للرئاسة الفرنسية منتصف شباط الماضي 2023، قال الإليزيه إن باريس وبعدما استنتجت أن الشروط السياسية والتشغيلية لم تعد متوفرة في مالي، قررت سحب قوة (برخان) من مالي إلى خارج الأراضي المالية.

ويأتي ذلك ليوضح بصورة لا تقبل الشك أن خروج فرنسا كان بطلب وتصميم من السلطات المالية حينها، وبدا ذلك أكثر وضوحاً حينما أعلن المجلس العسكري في مالي، برئاسة الكولونيل عاصمي جويتا، إلغاء الاتفاقيات الدفاعية كافة التي وقعتها باكو مع فرنسا وشركائها الأوروبيين.

كما تلا ذلك عدة انقلابات في بلدان إفريقية أخرى، كان آخرها انقلاب النيجر، الذي كان أكثر وضوحاً في نهج الابتعاد عن المحور الأوروبي الغربي من جهة، والانفكاك عن التبعية لفرنسا من جهة أخرى. 

وتحت ذرائع شتى، مع أنها دعمت انقلابات سابقة بصورة أو بأخرى، حاولت الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا، العمل على إفشال الانقلاب وإعادة الرئيس المخلوع بازوم إلى الحكم، لكن بعد رفض قادة الانقلاب الخضوع للتهديدات الغربية، بدأت عمليات الضغط على الحكم الجديد فيها، من خلال التهديد بالتدخل العسكري عبر قوات من دول غرب إفريقيا، المعروفة بـ (ايكواس)، والتي فعلياً بدأت التهديد بغزو النيجر وإعادة الرئيس (الشرعي) للحكم.

وتبادلت الحكومة الفرنسية وقادة الانقلاب الاتهامات والتصريحات خلال ذلك، حيث أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تصريح له أنه يدعم رئيس النيجر المنتخب محمد بازوم، وأن سفيره لدى ميامي سيبقى رغماً عن قادة الانقلاب، فيما كان رد المجلس العسكري برفع الحصانة الدبلوماسية عن السفير الفرنسي سيلفان إيت، وأمر الشرطة بطرده، الأمر الذي رفضته باريس ثم عادت واستدعت سفيرها لاحقاً ما عدّ رضوخاً لشروط قادة الانقلاب.

وأصبح الانقسام الإفريقي أكثر وضوحاً، إذ وقفت الدول التي شهدت انقلابات مؤخراً إلى جانب سلطات الانقلاب في النيجر ودعمتها عسكرياً، مثل سلطات مالي وبوركينا فاسو، في حين وقفت الدول التي لا زالت تحكم من قبل أنظمة حكم تقليدية أو سابقة ضد الانقلاب، إلا أن (ايكواس) نفسها شهدت تردداً وانقساماً حول شكل التدخل في النيجر ونوعيته ما أفشل التدخل العسكري.

الموقف الفرنسي من انقلاب النيجر

ويبدو الموقف الفرنسي متشدداً تجاه ما يحصل في النيجر ويعود ذلك لعدة أسباب، أهمها:

- تخوف باريس من استمرار مسلسل الانقلابات المناهض لوجودها في إفريقيا، وبالتالي انتشار عدوى الانقلابات إلى دول أخرى تهدد النفوذ الفرنسي الذي بدأ يتراجع بشكل واضح هناك.

- التنافس الفرنسي مع روسيا التي بدأت تغلغلاً واضحاً في القارة الإفريقية، وذلك ضمن التنافس الروسي الغربي الممتد من أوكرانيا وصولاً إلى آسيا ومن ثم إفريقيا.

- سبب اقتصادي يعود لتخوف فرنسا من فقدان مصدر مهم لما تحتاجه من مواد أولية، وكذلك سوق لتصريف منتجاتها، بما في ذلك الصناعات العسكرية.

التعنّت الفرنسي والذي تحوّل من التهديد بعمل عسكري إلى عدم القبول بمغادرة السفير الفرنسي لعاصمة النيجر، واجَهه موقف متصلّب لقادة الانقلاب، ما جعل ماكرون يقبل بإخراج السفير، فيما يبدو بأنه قطع لآخر أشكال التبعية السياسية والتحول لشكل آخر من العلاقة بين الدولتين.

كل ذلك جعل المحللين يعتبرون أن ما حصل في النيجر يمثل نموذجاً واضحاً للمتغيرات التي لحقت بالعلاقات الدولية في إفريقيا، وظهر ذلك جلياً في تصريحات قادة الانقلاب تجاه أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص.

روسيا في إفريقيا

وضمن إستراتيجية بوتين في استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي والعودة بروسيا إلى الساحة العالمية، وذلك من خلال عدة بوابات، أهمها تدخله في محيط روسيا الحيوي /الجيوسياسي/ والذي تمثّل بتوسع نفوذ موسكو في دول الاتحاد الروسي، وآخرها ما يحدث في أوكرانيا، ومن قبل الوجود في سوريا والتنافس الروسي الأمريكي فيها، وصولاً لإفريقيا التي أصبحت هدفاً للتوسع الروسي بشكل واضح، باتت دول إفريقياً ميداناً واضحاً لنفوذ روسيا خاصة العسكري.

ولعل أبرز مثال على ذلك هو ظهور (ميليشيا فاغنر) متعددة المهام العسكرية والأمنية في القارة السمراء، حيث كان آخرها ظهور زعيم فاغنر (يفغيني بريغوجين) في صحراء الساحل الإفريقي قبيل مقتله.

من جهته، أكد الدكتور "محمود حمزة" الباحث السياسي المتخصص بالشأن الروسي، دور موسكو في الانقلابات التي شهدتها إفريقيا مؤخراً، عازياً ذلك إلى دور مليشيات فاغنر التي تمتلك علاقات قوية مع العسكر هناك، إضافة لمساعدتهم بالتدريب والخبرة العسكرية مع تقديم الدعم المباشر، وذلك مقابل مزيد من النفوذ والتنقيب عن المعادن الثمينة كالذهب والألماس في تلك الدول.

ولعل ما يحدث في السودان يعتبر مثالاً واضحاً للتدخل الروسي أيضاً، إذ تحوّل التنافس الغربي الروسي إلى صراع بأدوات محلية في السودان، كما حصل إلى حد ما في ليبيا من قبل.

القادة الجدد غير مؤدلجين

ولعل الملاحظة الأبرز حول الانقلابات الأخيرة التي حدثت في الدول الإفريقية، هو الأعمار الصغيرة لقادة الانقلاب، والذي يعد مؤشراً على أن هؤلاء يمثلون جيلاً جديداً غير مؤدلج بدأ يظهر في القارة السمراء، حيث لم يدرسوا في أوروبا ولم يدخل أي منهم كلياتها العسكرية، كما إنهم عانوا من فساد جنرالات الانقلابات السابقة.

وكذلك حصل القادة الجدد وبسبب خطابهم الوطني، على دعم فئات كبيرة من شعوبهم التي باتت ترفض استغلال مواردها من قبل الدول الأوروبية، وهذا ما بدا واضحاً في خروج الناس للشارع مؤيدين للانقلابات العسكرية التي رأوا فيها منحى وشكلاً مختلفاً عن الانقلابات السابقة والتي كانت تطبخ في مطابخ تلك الدول.

هل الانقلابات بلا تبعية؟

ولفهم طبيعة المرحلة القادمة، من المهم معرفة خلفية هذه الانقلابات، ومَن المستفيد منها وهل حصلت على دعم خارجي؟، فتاريخياً لا توجد انقلابات في دول العالم الثالث دون دعم خارجي تتبع له ويدعم مواقف قادة الانقلاب، حيث استشهد الدكتور "الحمزة" بعلاقات روسيا وفاغنر مع العسكر في دول الانقلابات الإفريقية، ما يدلل على الدور الروسي فيها. 

كما يؤشر لذلك ما ذكرته صحيفة الغارديان في تقرير لمراسل الشؤون الإفريقية "جيسون بارك"، جاء فيه أن موسكو تمارس تأثيراً واسعاً في إفريقيا وحصلت على عقود مربحة ومنافذ للمصادر الطبيعية، وهذه المؤشرات تدل بشكل أو بآخر على تغلغل روسي واضح في إفريقيا ودورها في تحول التنافس مع الغرب إلى ساحة جديدة.

ويرى الباحث السياسي السوداني "حمد عمر حاوي" المقيم في باريس والمتخصص بالشأن الأفريقي، أن الانقلابات العسكرية في تلك القارة هي عرض لمرض، وأن المرض الذي نشخّصه في إفريقيا هو أنها بلدان غنية بالموارد لكنها بالوقت نفسه تعاني من فقر وبؤس وحرمان، وهناك عدم استغلال لها محلياً.

وبالمقابل فإن هذه الموارد تتسرب بمساعدة الحكومات الفاسدة المتحالفة مع الخارج، لذلك يجد المواطن نفسه ضحية وهذا سبب لتتالي الانقلابات.

ما مستقبل العلاقات الدولية بالقارة الأفريقية وهل سنشهد انقلابات جديدة؟، سؤال يجيب عليه "حاوي" بالقول: يبدو أن الوقت ما زال مبكراً للحديث عن تغير شامل وواضح في العلاقات الدولية مع القارة الإفريقية، خاصة مع بقاء دول كبرى في حال استقرار سياسي كنيجيريا على سبيل المثال، والتي تقود منظمة الإيكواس، المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، في فرضها عقوبات على دول الانقلابات ولاسيما النيجر.

لكن مع ذلك، فإن الدكتور "حاوي" يرى أن الانقلابات ليست حلاً للواقع الحالي، وإنما الحل هو عملية تغيير وتحرر كامل وسيادة للشعوب على بلدانها ومواردها، و"للأسف الطريق الوحيد للتغيير الآن هو الانقلابات، في ظل عدم وجود قدرة للتغيير الديموقراطي بسبب الحكومات الحالية المدعومة خارجياً".

مخاوف مشروعة

من جهة أخرى، فإن الأرض لا تزال غير مستقرة تحت أقدام القادة الجدد، وهذا ما أكدته محاولة الانقلاب الفاشلة في بوركينا فاسو في 27 أيلول 2023، وبالتالي هناك تخوّف من أن تسلك الانقلابات الحالية طريق الانقلابات السابقة وتتحول إلى سلطات مستبدة، فيما الأمل الوحيد الذي تراه شعوب إفريقيا في الدول التي شهدت الانقلابات الأخيرة هو الخطاب الوطني الذي حملته والتحرر من القوى الخارجية المتحكمة في مصير هذه الدول.

وبذات الوقت هناك تخوف من بحث القوى التي نتجت عن هذه الانقلابات عن دول داعمة لها من أجل مقاومة النفوذ الغربي والتحالف معها، ما يعني توجهها إلى روسيا والصين، وهي قوى معادية للغرب لكنها تبحث أيضاً عن مصالحها التي لا تقل عن مصالح الدول الغربية ولها أطماعها، ما يضع هذه القوى كالمستجير من الرمضاء بالنار.

وهناك تخوف من نشوء صراع بينيّ يُدخل القارة الإفريقية في حروب بين دولها، وذلك بسبب تكوّن تحالفات جديدة تعادي بعضها البعض، تتمثل بتحالف الدول التي شهدت انقلابات مؤخراً تحت مسمى (بان أفريكان)، وهي مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتحالف (إيكواس) المدعوم من الغرب، ما ينذر بصراع قادم قد يقوض من دعوات الانفكاك التي رفعتها دول الانقلاب، الأمر الذي يعني أن تعود دوامة الصراعات إلى المنطقة.

وتلوح أيدي فرنسا على ما يبدو لمغادرة مناطق نفوذها التقليدية في القارة السمراء، بينما تطل روسيا والصين برأسيهما هناك، ما يعني تبدلات عميقة ستشهدها إفريقيا خلال السنوات المقبلة، قد تؤدي لنشوء صراعات محلية ودولية، وربما تسفر عن انتقال دول القارة إلى بر التحرر والنهضة، لكن مع الحضور الروسي-الصيني لا يبدو أن هذا الأمل قوياً، خاصة فيما يتعلق بتأسيس ديمقراطيات هناك، وهو ما لا تفضّله الدولتان الشرقيتان مؤكداً.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات