الدم في شوارع العالم الرقمي

الدم في شوارع العالم الرقمي

في آخر الدراسات حول مفهوم الدولة والمواطنة وضع علماء الاجتماع والمهتمون بهذا المبحث، ما أسموه "الوطن الافتراضي أو الرقمي" منسجماً مع مفهوم "الدولة الافتراضية" أو "دولة الإنترنت". 

تعطي للفرد مساحة إضافية أو بشكل أدق صار الإنترنت والسوشيال ميديا وطناً إضافياً للفرد أو للمواطن. الإشكالية التي أود طرحها هنا تتعلق بكيفية التعامل مع هذا الوطن الإضافي؟ كفرد أو كمجتمع لأنه ببساطة أيضاً وانسجاما مع المفاهيم الجديدة أعلاه، يمكننا الحديث عن "المجتمع الرقمي" أو" مجتمع الإنترنت" طالما هنالك "دولة إنترنت".
الأجيال الجديدة صارت السوشيال ميديا حياتها، المراهق أو الشاب أيضاً تجد أن وقته الآن انقسم إلى عالمين عالم واقعي وعالم رقمي أو افتراضي. 

الوقت الذي يفضله بات ملكاً لهذا العالم الافتراضي، فيسبوك وإنستنغرام وتيك توك ويوتيوب بشكل أساسي وإكس بشكل ثانوي. 

الآن جاءنا الذكاء الاصطناعي الذي لا نعرف بعد نتائجه الحقيقية، الوقت في مثل هذه المجتمعات الرقمية هو ملك لأصحاب هذه الشركات. 

هم يتحكمون به من خلال إبقاء الفرد أو المراهق وقتاً أطول داخل هذا العالم وهو في سريره أو جالساً في غرفته، أو حتى في وسائل النقل. لم نعد نملك وقتنا. هذا عنوان أساسي ورئيسي لفهم الحالة. هذا أمر بات واقعاً حقيقياً تعاني منه العائلات في التعامل المفرط من قبل أبنائهم مع عالمهم الافتراضي. كل هذا بات مفهوماً للجميع لكن لو أردنا الانتقال إلى الحيز السياسي والإنساني هنا نجد الكارثة. 
أطول لحظة تعاطف مثلاً مع قتيل لا تتجاوز مدة المادة المطروحة على السوشيال ميديا، ربما دقيقة أو أقل أو دقيقتين على أبعد تقدير، لينتقل إلى مغنٍ أو مطرب يسافر بطائرته الخاصة. غير مسموح لك بأكثر من ذلك. يجب أن تمضي لتمر الإعلانات المدفوعة من أمامك. الإعلانات التي هي مصدر أساسي للربح لهذه الشركات. غير مسموح له التعاطف أكثر من وقت الخبر نفسه!!.
المجتمع السياسي والمجتمع الرقمي:
هل لدينا حرية الاختيار؟، هذا سؤال بات وجودياً في الحديث عن وجودنا داخل العالم الرقمي. قبل أن ننتقل للحديث عن علاقة ذلك بالسياسة. لم يعد لمعظم البشر الافتراضيين وجود خارج عالمهم الرقمي. 

لا يعترفون حتى بالعالم الواقعي ومتطلباته، لكنك تجدهم أحياناً مصدومين بحدث من الواقع حتى في واقعهم هم. يحاولون الانتقال سريعاً لعالمهم الافتراضي ونسيان الواقعي. عالمهم الافتراضي يوترهم أحياناً ويفرحهم في أحيان أخرى أو حتى يتعسهم. كلا الحالتين تنعكس على وجودهم في العالم الواقعي دون أن يدروا. وقتهم أكثر من نصفه لعالمهم الافتراضي الذي وهنا المصيبة يتحول إلى عالم وهمي. يعتقدون أن ما يحلمون به يمكن أن يأتي عن طريق هذا العالم الافتراضي. يقتنعون بذلك وكلما زادت قناعتهم بذلك، كلما ازداد انشغالهم بهذا العالم. كلما سرق وقتهم على حلم أو وهم أو تفاهة. لدرجة أنه يتحول إلى حالة إدمان تماماً كالمخدرات. إدمان العالم الرقمي بكل ما فيه. مثلاً تجد رجالاً يتعاملون مع الفيسبوك كأنه امرأة يحلمون بها أو يحلمون أن تأتي خارجة إليه من هذا الفيس أو غيره، كذلك بعض النساء يتعاملن مع الفيسبوك ووسائل التواصل الأخرى كأنها رجل!! تصير يوميات هؤلاء جميعاً رجالاً ونساء هي انتظار الرجل أو المرأة المشتهاة يخرج على حصان أبيض من صفحتها أو تخرج بجناحي حورية من حوريات الله من صفحته. لنتحول جميعاً إلى مالكي سرنا الخاص على الفيسبوك أو على إنستغرام أو غيره، حيث يصير التواصل بين البشر الافتراضين هنا سرياً أو علنياً حسب الحاجة. تجذبنا جميعاً الإعجابات من الآخرين. 

كما يميل بعض الناس إلى جعل هذه الأمكنة الافتراضية ساحة لتصفية الحسابات والفضائح والصفقات والأعمال في أحيانٍ أخرى. لكن السؤال الحقيقي يبقى هل نحن أحرار في التعامل مع هذا العالم الافتراضي؟  أعتقد أن الحر الوحيد هو صاحب الشركة وأرباحه. في المقابل يجب أن نسأل أيضاً هل هذه المساحة الافتراضية تزيدنا معرفة بالعالم؟ نعم ولا بنفس الوقت. هذه تحتاج لمادة خاصة، يمكن أن نعنونها بالمعرفة الافتراضية.
في ظل هذا نجد لعب المستوى السياسي على هذا الوتر. هنا تبدأ مفاهيم السيطرة والهيمنة على هذا العالم الوهمي أو الرقمي، القوى الكبرى بات لديها مؤسسات ضخمة من أجل ذلك، كي تتحكم بالمشهد الافتراضي هذا. 
في شوارع هذا العالم الافتراضي نجدها مليئة بدم أطفال غزة وقبلها بدم أطفال سوريا حتى تاريخ كتابة هذه المادة، حيث قام بوتين بقصف أطفال مخيمات قرية الحمامة في جسر الشغور في سوريا، وقبلها خلال 12 عاماً يقوم الأسد بقتل أطفال سوريا. 

تنتشر صورهم في السوشيال ميديا كخبر يمر مرور الكرام على الفعل الإنساني العام. لماذا لم يعد يوجد فعل إنساني عام؟ لأن الدول الكبرى المسيطرة سياسياً واقتصادياً على العالم لا تريده، وإن حدث تحاول التحكم به تبعاً لقوتها النسبية. تحويل البريء إلى متهم وتحويل المجرم إلى بريء هكذا تتلخص أفعال الدول الكبرى عبر هذا العالم تبعاً لمصالحها. 

ما هي المعلومة التي يُراد بثها على وسائل التواصل وتفعل فعلها السياسي المباشر أو غير المباشر؟ هنا علينا أن نفكك كل جريمة سياسية وكل حدث على حدا. 

قصف مشفى المعمداني في غزة والذي راح ضحيته 500 إنسان، تحاول الإدارة الأمريكية ومعها بعض الدول الأوروبية فبركة القصة على أنها نتيجة خطأ صاروخي مما يسمى المقاومة الفلسطينية. 

هنالك دول أثبتت عكس ذلك، لكن الدول الغربية نتيجة إصرارها وامتلاكها لمساحة عالمنا الرقمي استطاعت أن تجعل من الصورة مشوشة من جهة ومنسيّة من جهة أخرى. منسية بحكم كثافة النشر في العالم الرقمي. كثافة النشر التي تضغط على عقلنا. لا تترك لنا وقتاً لتفكيك الأخبار. الذكاء الاصطناعي أيضاً سمح بتزوير المعلومات بسهولة وإظهارها وكأنها حقيقة لا لبس حولها. تماماً كمحاولات الأفلام ثلاثية الأبعاد التي لم تنجح تماماً بعد رغم ما حققته من نجاح ربحي وهذا هو المهم. كتبت بوستاً على صفحتي على الفيسبوك قبل فترة قلت فيه:
"قلبنا لم يعد يحتمل كل هذا القتل والزيف والادعاءات والتضليل والتفاهة لقتل كل جميل. قلبنا لم يعد يحتمل كل هذه الانشغالات الفارغة في السوشال ميديا التي يجبروننا عليها. كل هذا مقبول، لكن من غير المقبول أن نكون جميعنا مادة للتفاهة والربح والدماء حولنا شلال. من غير المقبول أن نعلق رؤوسنا على جدار الاستعراض ونقول نحن احرار، أية حرية هذه. نرضخ للابتزازات الصغيرة والمعارك الوهمية، وعناوين العري والنكتة ومعتقدين اننا نجذب الآخرين، والاشتباكات الصغيرة حول قضايا يجبرنا عليها الاستعراض. جميعنا لا استثني حتى نفسي. رغم كتابتي لهذا لكنني مضطر أن أبقى مادة للتفاهة، لأن لا صوت لنا، لا صوت لدماء اطفالنا خارج الانخراط بهذه التفاهة.
كيف الخروج من هذا النفق المظلم، هل عن طريق ما يسمى الانترنت السوداء؟ تلك المساحة التي تعد مسرحا حقيقيا لارتكاب الجرائم، خارج الرقابة القانونية للشركات والدول. هذه أيضا غير متوفرة للفقراء".
نحن جميعاً الآن مدمنون بشكل أو بآخر ولا فكاك، إلا بمحاولات فردية كامتلاك الإرادة بألا تكون عبداً لكل هذا العالم الرقمي. أنت تحدد كيف تتعامل معه، لا تعطيه وقتك كاملاً. هل هذا ممكن وسهل؟ مع ذلك تبقى هذه المحاولة فردية على أهميتها. كما كنا في فترة ماضية عبيداً للتلفزيون الذي حلّت محله أجهزة المعلوماتية والموبايلات وغيرها من أجهزة. 
كيف نتحكم بما نستطيع مع هذا العالم الرقمي ودماء أطفالنا منتشرة فيه؟
الحرية للربح وللأقوى فقط.. إنها إشكالية هذا القرن.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات