ما بين "غزة وسوريا".. هدنة لالتقاط الأنفاس وأُخرٌ للتغيير الديمغرافي

ما بين "غزة وسوريا".. هدنة لالتقاط الأنفاس وأُخرٌ للتغيير الديمغرافي

بعد مضي أكثر من شهر ونصف على القتال الدامي بين إسرائيل وحركة حماس، وُقّعت الهدنة بين الطرفين والتي تضمّنت اتفاقًا لتبادل 50 رهينة من الرهائن المحتجزين في غزة مقابل وقف القتال لمدة أربعة أيام، والإفراج عن 150 امرأة وطفلاً فلسطينياً محتجزين في السجون الإسرائيلية، والسماح بزيادة المساعدات الإنسانية إلى غزة.

الهدنة الحالية في غزة تعد "الرابعة" من نوعها خلال تاريخ الصراع بين الطرفين، أولها كانت في العام 2008، مدتها 6 أشهر بوساطة مصرية بعد هجوم إسرائيلي على القطاع، وتضمّنت الهدنة حينها وقف إطلاق النار المتبادل، وتخفيف الحصار العسكري والاقتصادي على غزة بما فيها فتح جميع المعابر الحدودية، لكنها انهارت في الشهر التالي بعد شنّ إسرائيل هجومًا واسعًا على القطاع الساحلي. 

أما الهدنة الثانية، فقد كانت في العام 2012 بعد 8 أيام من العدوان الإسرائيلي، تضمّنت توقف العنف لفترة طويلة، ومنع تهريب السلاح إلى القطاع، وإدخال المساعدات الإنسانية وفتح المعابر، لكن هذه الهدنة تعثرت أيضاً بعد أن اتهمت تل أبيب مصر التي كانت وسيطاً بالانحياز إلى حركة حماس.

في حين سجّلت الهدنة الثالثة في العام 2014، بعد حرب دامت 50 يوماً وخلّفت أكثر من 2000 قتيل في غزة، إلا أنها فشلت أيضاً بعد تواصل المعارك في قطاع غزة بين الطرفين.

ويبدو أن الكم الكبير في أعداد القتلى والأسرى الذي لم يعهده الإسرائيليون من قبل واتساع مساحة التهديد المباشر، ونفاذ صبر الحاضنة الإسرائيلية من حيث مطالبتهم برهائنهم والإقامة بالملاجئ وتغير نمط الحياة كلها عوامل شكلت قوة ضغط مهمة على الحكومة الإسرائيلية للرضوخ إلى الأصوات الإسرائيلية التي باتت ترتفع وتطالب بوقف القتال وتأمين الإفراج عن الأسرى.

في حديثه لأورينت، يرى العقيد السوري المتابع لأحداث غزة "مالك الكردي"، أن جميع أشكال الدعم الأمريكي والغربي عمومًا المباشر وغير المباشر للجيش الإسرائيلي لحسم المعركة بوقت قصير أثبتت فشل هذا الجيش في تحقيق الهدف المرسوم له رغم استخدامه قوى نارية غير معهودة في تاريخ الحروب وتجريفه لكامل الأرض التي وصل إليها.

مضيفًا، أن الجندي الإسرائيلي كان مهزومًا نفسيًا بفعل المباغتات الفلسطينية منذ بداية اليوم الأول لمعركة طوفان الأقصى، عكس المقاتل الفلسطيني والذي ما زال يحافظ على توازنه وقدراته وحالته النفسية المرتفعة، عدا عن أن إسرائيل أيقنت بفشلها بتهجير الفلسطينيين خارج غزة، واقتلاع حماس من القطاع الذي يغصّ بكثافة سكانية كبيرة، ما خفّف من حماسها لاستكمال عملية احتلال القطاع الذي سيشكّل عليها عبئًا كبيرًا أصعب من تحمّله.

وعلى الجانب الفلسطيني، فإنه ورغم كل ما تحمّله من عبء القتل والدمار الذي أصابه، فإن الحاجة كانت كبيرة أيضًا إلى تجميع قواه وانتشال ضحاياه والكشف عن المفقودين تحت الأنقاض، وإحصاء خسائره البشرية وتثبيت نقاطه، حسب الكردي.

الهُدن في سوريا

تعيد الهدنة في قطاع غزة الذاكرة إلى الهدن التي عاينها السوريون خلال حرب الإبادة التي خاضتها ميليشيا أسد والميليشيات الموالية والاحتلال الروسي ضدهم، ورغم أن مفهوم الهدنة يمكن أن يقضي بإدراك جميع الأطراف المتصارعة إلى استحالة فوزها إلا أن ميليشيا أسد قد استفادت منها أكثر من المعارضة واستطاعت تحويلها لاتفاقيات إذعان وتسليم عرفت بـ "المصالحة الوطنية". 

وقد عملت ميليشيا أسد خلال سنوات الثورة السورية على هذا النموذج في ما لا يقل عن 25 منطقة، تركّز معظمها في دمشق وريفها، وكانت تصرّ على تسمية هذا النوع من الاتفاقات بـ "المصالحات المحلية"، في حين كانت فصائل المعارضة تصفها بأنها "اتفاق لوقف إطلاق النار"، وتتشابه معظم الاتفاقات في بنودها التي سعى أسد من خلالها إلى عزل المناطق عن بعضها، وتوفير جهوده العسكرية لاستخدامها في مناطق أكثر أهمية.    

تشير دراسة "مركز كارنيغي للشرق الأوسط" أنه طيلة فترة الصراع في سوريا، ثبُت أن عمليات وقف إطلاق النار المحلية لا تفيد المعارضة السورية، بل نظام الأسد فقط فبعد كل وقفٍ لإطلاق النار، كان النظام قادراً على استعادة المناطق التي خسرها أمام المعارضة في مناطق وقف القتال، باعتبار غياب التكافؤ النسبي على المستوى العسكري بين الطرفين وتغليبه لصالح النظام.

من جهته يرى موقع" ميدل إيست آي"، أن الهدنات التي جرت في سوريا كانت بمثابة عنصر لتدعيم تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ كانتونات مختلفة، كما أنها تؤدي إلى تعزيز سيطرة الأطراف المتحاربة على معاقلها على حساب الأراضي النائية، فيما تعوّل إستراتيجية الاعتماد على الهدنات المحلية للوصول إلى وقف إطلاق نار شامل في جميع أنحاء البلاد على نهج تدريجي تصاعدي، وهو النهج الذي نستطيع أن نتلمس العور الذي يتخلله من خلال النظر إلى "عملية السلام" الإسرائيلية – الفلسطينية، التي اقتصرت على مجرد تكرار للعمليات بدون التوصل إلى سلام شامل، حيث أعطت هذه الهدنات الأطراف المتحاربة أو الجهات الفاعلة الفردية فرصًا كافية لاستعادة زمام الأمور واستكمال نهجها المدمر.

في حديثه لأورينت، يعتبر العقيد المنشق "مالك الكردي"، أن ما جرى في سوريا من هدن وعدم التزام النظام بها ومقارنتها بهدن غزة مختلف تماماً، فطبيعة الصراع السوري الداخلية لم تكسب تعاطفًا كالذي كسبته غزة، ويمكن ملاحظة ذلك في التظاهرات الدولية الزاخمة لغزة والتي كانت حاضرة، فيما لم يكن للقضية السورية نصيب مثلها رغم المجازر المرعبة التي جرت بحقّ السوريين.

وعلّل الكردي ذلك بحداثة قضية غزة من جهة، ومن جهة أخرى ضعف أداء السياسيين في المعارضة السورية المتمثلة في الائتلاف الوطني السوري وحتى المستقلين منهم ولهاثهم لحجز مقاعد على قطار الثورة الذي كانت تتسارع حركته في مسعاهم للوصول إلى مقاعد السلطة في الوقت الذي كان ينشط فيها اتباع النظام لتسويق الثورة على أنها صراع بين سلطة وإرهاب متمثل بـ "الإرهاب الإسلامي" الذي يشكّل عقدة لدى الغرب. 

مشيرًا إلى أن تمّ تدعيم هذه الفكرة من خلال دعم النظام الخفي عبر وكلائه تشكيل فصائل ذات صبغة إسلامية مما أفقد الثورة مدّها الجماهيري دوليًا، وبالتالي فقدت قوة الضغط والمناصرة الحقيقية التي تحملها الشعوب.

كيف ترى الأطراف الهدن؟

لم تكن الهدن مطلبًا أو حاجة للمعارضة أو النظام خلال أوج تقدمهما بقدر ما أنها كانت استجابة لضغوطات من قوى خارجية تظن أنه يمكن من خلالها إيجاد مخرج للقضية، وبالتالي فإن أسد الذي بات هو الأقوى على الساحة بعد استعادة مساحات كبيرة بفعل الدعم الروسي بات أكثر أملًا في استعادة بقية المناطق بعيدًا عن التفكير بأي هدن، بعد أن استشعر ضعف قوى الثورة وتراجعًا مستمرًا، وهو ما يعني بالضرورة الضغط على قوى الثورة للتهجير وترك أماكن نفوذهم.

ويظهر للمطلع أن الهدن بالنسبة للنظام تكرس واقعًا طويل الأمد مجهول النتائج ليس بصالحه، لذلك يجد أن نقض الهدنة واستمرار المعارك هو الأوجب، وبالمقابل فإن قوى الثورة متعددة الرؤوس والتي لا تضبطها قيادة موحدة لها رؤى مختلفة.

وتتمثل الرؤية الأولى -حسب الكردي- في أن الهدن استراحة محارب ومتنفس للمدنيين لوقف استنزافهم وقتلهم وضمان عدم تقدم النظام لاستعادة المناطق التي خسرها وتهجير السكان خارج الحدود، فيما ترى قوى أخرى أن الهدنة تكرّس واقعًا مع الزمن يؤدي إلى استعادة نظام الأسد لقوة تنظيمه واستكمال قتاله في الوقت الذي تُحاصَر فيه قوى الثورة ولا تصلها قوى إمداد كافية، ما يعني أن استمرار القتال هو أفضل للثورة من الهدنة، أما الرأي الأخير فيذهب بعيدًا في أن الهدنة مع إطالة أمدها تقود إلى إقامة كانتونات ودويلات وانفصال الأجزاء عن الأم، ولا بدّ من استمرار القتال لمنع ذلك واتباع سياسة الإنهاك القصوى، وتحمّل عضّ الأصابع، فكل هذه الأسباب الجوهرية تدفع إلى نقض الهدن المعلنة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات