في ذكرى الجلاء: سأخون وطني؟!

في ذكرى الجلاء: سأخون وطني؟!
بين عامي 1925 و1927 خاض السوريون ثورتهم الأولى ضد الانتداب الفرنسي. وقد أطلقوا عليها اسم (الثورة السورية الكبرى) رغم أنها لم تحقق لهم الاستقلال أو جلاء جيوش الانتداب إلا بعد ما يقرب من عقدين من الزمن.

في هذه الثورة وقف السوريون صفاً واحداً ضد مشروع غورو تقسيم سوريا إلى خمس دويلات طائفية ومناطقية، ووقفوا صفاً واحداً ضد التمييز بين أبناء الوطن... فقد توافق الزعماء الوطنيون حينها على تسمية زعيم أصغر طائفة في سورية (طائفة الموحدون الدروز) قائداً عاماً للثورة السورية هو سلطان باشا الأطرش. وفي هذه الثورة أيضاً التف السوريون حول عاصمتهم التاريخية دمشق، التي دفعت ثمناً باهظاً للثورة، حين أقدم الجنرال ساراي عام 1925 على قصف أحيائها من جبل المزة، بعد أن تسلسل ثوار دمشق وغوطتها إلى مقر إقامته في قصر العظم وحاولوا اغتياله... وكانت نتيجة هذا القصف أن دمشق خسرت واحداً من نفائس أحيائها القديمة (حي سيدي عامود) الذي احترق عن بكرة أبيه، وترك مهجوراً لفترة من الزمن، يلعب الأطفال في خرائبه.. قبل أن يتحول اسمه إلى (الحريقة) الذي غدا قلب دمشق التجاري وأحد أهم أسواقها التقليدية العريقة.

دروس معركة الجلاء اليوم تمتزج فيها الذكريات بحلوها ومرها... ولعل أقسى تلك الدروس هي صورة الاحتلال الفرنسي التي قارنها أحفاد رجال الاستقلال الأول، مع صورة نظام الأسد الذي يواجه ثورتهم الثانية التي فجروها ضد نظام الظلم والاستبداد بعد ستة وثمانين عاماً من ثورتهم الأولى.. فساراي الذي تجرأ على قصف دمشق وأحرق أحد أحيائها، سرعان ما بادرت الحكومة الفرنسية إلى إقالته بعد أشهر قليلة، وأرسلت عوضاً عنه المندوب السامي الفرنسي هنري دو جوفونيل الذي أراد الفرنسيون من خلاله أن يحلوا سياسة الديبلوماسية والتفاوض محل سياسة الرعونة والتهور في استخدام القوة التي تورط بها ساراي.. وغدت (نكبة دمشق) عنواناً لحملة إدانات دولية وعربية، ربما خلدتها في الوجدان قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي يقول في مطلعها:

سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشـــــق

ومعذرة اليراعة والقوافي جلال الرزء عن وصف يدق

ومن مساوئ الذكرى أن المكان الذي قصفت منه دمشق أيام الفرنسيين في جبال المزة، هو نفسه الذي تقصف منه مرة أخرى بالقرب من أحياء المزة 86 ومطار المزة العسكري... لكن ما بدا حادثاً استثنائياً في ظل الاحتلال، غدا سلوكاً شبه يومي في ظل نظام، لا يبدو بالنسبة للعالم أنه (نظام احتلال) بل يعترف به ممثلا لسورية في الأمم المتحدة، وعلى أيدي أشقاء يقال أنهم (شركاء في الوطن) وليس جنوداً فرنسيين أو مرتزقة سنغال.. أما أشد ما يواجهه السوريون وهم يقارنون بين صورة المحتل الأجنبي ودولة الاستبداد الوطنية.. فهي أن سلطات الاحتلال كانت أكثر حرجاً وحذراً في قمعها للسوريين، فلم يعرف عنها أنها قصفت مئذنة أو دمرت كنيسة أو استباحت بقصف طائراتها ومدافعها قلعة أو أثراً تاريخياً... وكان مريراً أن يقف الشيخ كريم راجح شيخ قراء بلاد الشام في إحدى خطب الجمعة في جامع الحسن في حي الميدان الدمشقي في الأشهر الأولى للثورة، كي يذكر جنود الجيش السوري الباسل بأخلاق الجنود الفرنسيين الذين كانوا لا يتجرؤون على اقتحام مسجد لجأ المتظاهرون أو الثوار إليه... بينما يتباهى جنود الأسد بقصف المساجد والكنائس وتدنسيها والتقاط الصور التذكارية لهم، ومقاطع الفيديو التي يتمادون فيها في شتم الذات الإلهية والاجتراء على المقدسات.

لم يشعر السوريون بعد سنتين من الثورة ضد الانتداب الفرنسي أن العالم قد خذلهم إلى الحد الذي يستشعرونه اليوم... فرغم حالة الإنهاك الاقتصادي والدمار الجزئي التي مرت بها بعض مناطق البلاد، ورغم نفي أو خروج بعض زعماء ثورتهم إلى دول مجاورة.. استمرت نخبهم الوطنية تخوض معركة الاستقلال بصرامة عبر حراك سياسي بارع، أسسوا فيه تجمعات وكتلاً.. وتابعوا حراكهم السلمي والشعبي عبر إضرابات كبرى شهدتها البلاد، ربما كان أشهرها الإضراب الستيني عام 1936 بسبب اعتقال بعض قادة الكتلة الوطنية وإغلاق مكاتبها في دمشق، والذي استمر في بعض المدن لعدة أسابيع، وفي دمشق لمدة ستين يوماً.. ورغم أن  الجيش الفرنسي نزل إلى شوارع دمشق وهدد باستعمال القوة لكسر الإضراب، إلا أن الصلابة الشعبية وبعض الظروف الدولية دفعت فرنسا لقبول التفاوض مع هاشم الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية الذي سافر مع وفد من كبار رجالات سورية إلى باريس لعقد معاهدة الاستقلال بين البلدين.

وإذا كان تاريخ الوثائق الفرنسية يذكر أن بعض وجهاء الطائفة العلوية ومنهم جد بشار الأسد قد وقعوا على عريضة، تطالب بعدم خروج الفرنسيين متحدثة حسب نص الوثيقة (عما ينتظر العلويين من مصير مخيف وفظيع في حالة إرغامهم على الالتحاق بسوريا عندما تتخلص من مراقبة الانتداب ويصبح بإمكانها أن تطبق القوانين والأنظمة المستمدة من دينها).. فإن هذه الوثيقة لم تحل دون تحقيق إجماع وطني من باقي الطوائف والمكونات السورية على حلم الاستقلال الذي تحقق بعد ذلك.. فلا المسيحيون ولا الإسماعيليون ولا الدروز تحدثوا عما ينتظرهم من مصير مخيف في حال خروج فرنسا... فكيف تبدو بعض الأصوات اليوم وهي ترفع شعار طمأنة الأقليات في حال سقوط نظام الأسد، متناسية دورها التاريخي المشرف في معركة الاستقلال الأولى؟!!

يحتفل السوريون بعيد الاستقلال اليوم، ومدنهم مدمرة، وقراهم محروقة، واقتصادهم على حافة الانهيار، والملايين منهم مهجرون ونازحون، تقطعت بهم السبل في دول الجوار، وتقاعس عن حسن ضيافتهم من كانوا بالأمس يقاسمون الشعب السوري لقمته ومسكنه في موجات اللجوء المتتابعة.

يحتفل السوريون بعيد الاستقلال ودمشق والعديد من مدن سورية تقصف كل يوم ليس بالأسلحة التقليدية وحسب، بل بالصواريخ البالستية والسلاح الكيماوي والغازات السامة، وسط فرجة دولية لم يعرف لها تاريخ أي احتلال أجنبي مثيلاً، فكيف بإسقاط نظام استبداد محلي، لم يرع أي حرمة أو خط أحمر في قتل السوريين.

ولعل أقسى الصور المقارنة لمعركة الاستقلال والثورة السورية الأولى ضد الانتداب الفرنسي تكمن اليوم في نظر الأحفاد إلى تلك الثورة باعتبارها نزهة قياساً بالمعركة الشرسة المريرة الواسعة الجبهات التي يخوضونها، فيما تبدو صورة المحتل الذي طالما كُتبت الأشعار والقصص والروايات وألفت المسلسلات للتغني بالانتصار عليه وطرده، صورة – إذا ما قورنت بصورة النظام الذي مازال يمثلهم في الأمم المتحدة- على قدر من الإشراق، تكتنفها الكثير من القيم الحضارية التي راعاها الفرنسيون وخانها أبناء الوطن.

لكن خلف هذه الصورة القاسية لتلك المقارنة التي صنعتها وحشية نظام الأسد... ثمة دروس مستفادة، وثمة قامات وطنية لرجال خاضوا معركة الاستقلال بشرف وأمانة، مرة في ساحات القتال ومرات في محافل السياسية الدولية. وإني أستعيد بإجلال هنا كلمات الزعيم شكري القوتلي الذي جاءه مرة الجنرال سبيرس وهو يقيم في قصره في الزبداني عام 1944 ليخبره أن رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل يريد من فخامته أن يعمل على التفاهم مع فرنسا لأن إنكلترا لن تسيء لعلاقتها معها في زمن الحرب من أجل سورية... فرد عليه شكري القوتلي بالقول:

(غادر فيصل سوريا وليس له فيها سوى كرسي بأربع أرجل، أما أنا يا حضرة الجنرال فلي في هذه البلاد ستمائة سنة، ولي فيها أهل وإخوان استشهدوا في سبيل الاستقلال الذي أحرص عليه أنا وشعبي، فإذا كان المستر تشرشل يريد أن يفعل بي ما فعله المستر لويد جورج بالملك فيصل، فليثق أن هذا لن يتم، وليطمئن إلى أنه لن يكون لفرنسا مقام في هذه البلاد).

وعندما التقى القوتلي بعد ذلك بأشهر بتشرشل في القاهرة عام 1945 كرر على مسامعه نفس الإصرار وبنفس الكبرياء... فقد آمن زعماء الاستقلال بصلابة بحلم الاستقلال، ووقفوا صفاً واحداً في معركة سياسية حافلة بالمآثر... وحتى  عندما وجه الجنرال الفرنسي أوليفار روجيه إنذارا إلى رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري يطلب منه أن تقوم حامية مجلس النواب بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في المساء عن دار الأركان الفرنسية التي كانت قائمة مقابل البرلمان. رفض الإنذار وأوعز إلى قائد الدرك بألا يستجيب له.. فكانت حادثة الاعتداء على البرلمان في التاسع والعشرين من أيار عام 1945 المسمار الأخير في نعش الانتداب.

بشعور تمتزج فيها الكرامة الوطنية بالمرارة... ربما لن نجد ونحن نكتب هذه الكلمات في هذه الذكرى، أفضل من عنوان كتاب محمد الماغوط: (سأخون وطني).. فقد نجح المستبد الوطني، المولود على الأرض السورية والذي يحمل الجنسية السورية أيضاً، في أن يكدر صفاء الاحتفال بذكرى الاستقلال في نفوس الكثيرين منا!

 

* رئيس تحرير (أورينت نت).  

التعليقات (16)

    آلجي

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    من أجمل ما كتب محمد منصور سلمت يداك

    شبل الأسد

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    بالله متحكي جد ؟ بعد كل شي قلتو وساويتو ولسه ما خنت وطنك.. اسماع يا محمد منصور آبيطلعلك تحكي عن مواقف الطائفة العلوية الوطنيي ولا عن جد السيد الرئيس يا خاين لأنو مواقفنا معروفة وخياناتكن وعمالتكن وقذارتكن معروفة وأنا بعرفك حقودي ومريض بس ما اتوقعت بذكرى الجلاء تكتب هالمقال الوسخ والله يعلن الحرية اللي بدكن ياها يا أذناب أردوغان وعملاء إسرائيل

    منى إم شام

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    مقال رائع تنتابك مشاعر مختلفة من العزة والأنفة والكبرياء ممزوجة بحزن وألم ...وتلمع دمعة في العين ...حيث لا ثمة بصبص أمل في آخر الرواق ..على الاقل في المدى المنظور

    فادي رياض

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    مقال رائع الجمال بالمضمون والأسلوب للمبدع محمد منصور

    متابع

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    ولك شبل الأسد ...بتعرف إنك ممل ....العما في قلبك شو معلاقك كبير هف ما أغلظك وما أسمجك

    سامر حنا

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    مقال رائع جدًا الله يخلصنا من هل النظام السرطاني الحقير ويحمي سوريا وشعبها

    شاهد على العصر

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    لم يكن شكري القوتلي وسعد الله الجابري بالملائكة كما صورهم التاريخ , بل كانوا لا يجدون فرصة مناسبة الا واستفردوا بقراراتهم , وحاولوا ارساء روح البرجوازية في صلب الدولة السورية , اما في حادثة 29 ايار بالبرلمان فقد رفضت حامية البرلمان من تلقاء نفسها ان تحيي العلم الفرنسي وقد نسبت الحادثة لسعدالله

    ﺑﻨﺖ البلد

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    ﻣﻘﺎﻝ ﺟﻤﻴﻞ ﻭﻣﺆﻟﻢ ....ﺳﻠﻤﺖ يداك

    إلى شاهد على العصر

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    ما تقوله محض افتراء... الرئيس شكري القوتلي الذي سجل التاريخ أن مجلس النواب لم يوافق له على شراء سيارة جديدة للقصر الجمهوري لأن سيارة القصر كانت تتعطل بين الحين والآخر في طلعات المهاجرين في واقعة مثبتة في كتب التاريخ لم يكن بحاجة للاستفراد بالقرار.. أما أنه كان ينحاز للروح البرجوزاية فهذه سياسة ورؤية... ولا يوجد رئيس حقيقي لا يملك رؤية سواء اختلفنا معها أم اتفقنا... ثم أن هذه الروح البرجوازية أشرف من حثالة العمال والكادحين الذين جاء بهم انقلاب البعث من الهمج الذي لم يسجل تاريخ الحكم الوطني مثيلا لوحشيتهم وانحطاطهم وفسادهم كمحدثي نعمة ورعاع

    ابن البلد

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    مقال جميل.. محزن.. كل الشكر لكاتب المقال لكن تعليقي يا جماعة هو على الصورة المرافقة للمقال.. الله يسعد هل الطلة أستاذ محمد منصور.. بس الموضوع لازمو صورة غير... وللا شو رأيكم يا جماعة؟؟

    إلى ابن البلد

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    يا أخي الكاتب مانو ممثل. منشان هيك صورتو مارح تكون معبرة عن الحالة اللي عم يصورها المقال.. يعني إذا مقالو حزين مارح يحطلك صورة باكية يا ابن البلد!

    shadi

    ·منذ 11 سنة 3 أسابيع
    أكيد هي ذكرى غالية على قلب كل مواطن سوري بس ما عم أقدر أنسى موقف شبيح النظام بالأمم المتحدة عندما ذكره المندوب الفرنسي بالوثيقة المشئومة وخيانة جد رئيسه المجرم أمام كميرات العالم بأجمعه وما قدر يرد عليه حتى رد ، فعلا عيلة طاهرة وشريفة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟

    basel

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    رائعة أستاذ محمد

    عماد

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    ما تتحدث به في هذا المقال هو عكس ما تنتهجه في إداره هذا الموقع من روح الطائفية والتفرقة التي تؤسس نفسياً لتقسيم سورية انت بالفعل خائن بطريقة ادارة الموقع وبث التفرقه بين الشعب السوري

    جورج

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    صالح العلي وهو علوي كما اعتقد هو اول سوري قاتل الفرنسيين لثلاث سنوات متواصلة قبل اي سوري آخر ومنذ 1918 فلماذا يا سيد محمد تذكر الخائن جد بشار ولا تذكر الوطني جد كل السوريين المقاومين الشيخ صالح العلي ؟ لنك ببساطة تميل إلى ماهو شبيهك

    سنان زرزوري

    ·منذ 11 سنة أسبوعين
    إلى المدعو جورج صالح العلي الذي أحرق ضيع الإسماعيلية وهجرهم.. جد كل قطاع الطرق واللصوص... وليس جد المقاومين يا تافه.
16

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات