اعتقال يوسف عبدلكي: سيرة لوحة لا تشبه سوى ذاتها!

اعتقال يوسف عبدلكي: سيرة لوحة لا تشبه سوى ذاتها!

يفتح حدث اعتقال الفنان التشكيلي السوري البارز يوسف عبدلكي (62 عاماً) على إحدى الحواجز في مدينة طرطوس سجل هذا الفنان الإشكالي المجدد، الذي استطاع أن يكون عنواناً من عناوين فرادة التجربة الفنية حين تؤمن بالحرية سبيلا للتعبير عن الذات، والبقاء في وجدان الفن.

هنا قراءة تكريمية في نتاجه الفني.. ولوحته التي طالما كانت نصل سكين في وجه الاستبداد.

(أورينت نت)

بيت صغير في حي ساروجة الدمشقي, ساحة البيت وغرفه تعج بلوحات طغى الأبيض والأسود على خطوطها وهندستها, وإن حاول الأحمر في بعض الأحايين, أن يلعب دور الساخر من هذه التراجيديا العبقرية.حذاء امرأة فارغ وآخر لرجل تتخيل أنهما قضايا ليلة دعارة,علب سردين,سمكة مقطوعة الرأس,وأخريات بأجساد تحتويها لوحات كبيرة,قد تصل أحجام بعضها إلى المترين. وسط هذه اللوحات تجد الرجل الستيني القادم من مدينة القامشلي شمال شرق سوريا, والذي قضى في المنفى الباريسي ما يقارب ال25سنة, بقيت الحارة الدمشقية وتشخيصاتها البصرية حاضرة في ذاكرته الدمشقية,خلال ذلك المنفى القسري,الذي سبقه اعتقال دام لسنتين نتيجة اشتغالاته السياسية المناهضة للنظام,وانضوائه في حزب العمل الشيوعي المحظور في سوريا. الحفار والنحات والغرافيكي والرسام, الرسام السوري يوسف عبدلكي الذي أشتهر عبر النبع الأول للفن, متجسداً بالورقة والريشة أكثر من باقي المجالات التي عبرها في رحلته الإبداعية, التي نحاول عبرها أن نتملص من أسر كلاسيكية وكالات الأنباء ووسائل الميديا التي تعاطت مع اعتقاله من قبل النظام بخبرية, طغت على المتن الفني والإنساني.

 الحارة الدمشقية:

عبدلكي الحائز على إجازة في الفنون التشكيلية من جامعة دمشق, تجد تجربة معرضه الأول في المركز الثقافي الروسي, خلال سبعينيات القرن المنصرم,تحمل هندسة الحارة الدمشقية,هندسة اصطخب عبر تصويرها الفني رؤية الفنان الحريصة عن الابتعاد التصويري "الفوتوكبي", لتحضر ذائقة المخيلة.المخيلة ذات الخطوط والانحناءات التي عوضت بساطة التصوير بحضور متوازي لشاب يعشق مدينة بجمالية عاشق يلثم ثغر حبيبته.مرحلة تقليدية كانت البوابة الأولى التي ولج عبرها عبدلكي عالم الفن.

 تمرد:

الجانب السياسي في تجربة عبدلكي الشخصية,وجد طريقه إلى لوحاته التي أعقبت ملاحقته وسجنه ثم تركه سوريا, خلال بدايات الثمانينات من القرن المنصرم, قاصداً العاصمة الفرنسية,باريس, حيث تجد الأحصنة وما تمثله من عشق للحرية, الثيمات التي طغت على نتاجه البصري, موجة الأيديولجيا التي اكتسحت الساحة الثقافية والإبداعية في تلك الحقبة التاريخية, لم ينعتق عبدلكي من فكاكها, ولكن إلى حين.

 المنفى:

باريس المكان الذي لم يتصالح معه عبدلكي, بقي وفياً لذاكرته الدمشقية التي لم تتمكن ذاكرة المنفى من استلابها, بقي معتز بانتمائه لسوريته ولعروبته. رفض جواز السفر والجنسية الفرنسية التي كان من الممكن أن يحوزها, نظراً لمدة لإقامته الطويلة, واستيفائه لاشتراطات الجنسية حسب القانون الفرنسي,من دفع الضرائب وغيره, وبقي بلا جواز سفر لمدة17سنة,الثائر الذي تجد الأنسنة ميزة ثيماته التي عاصرت هذه المرحلة,المرأة والرجل والأسطرة,أشياء تتصارع في جوانية إنسانية عبدلكي لترى النور في أعماله.الثائر الذي لم يتصالح سوى مع المقهى الذي يرتاده كل يوم لشعوره بجمعية حضور الناس,وعقد صلات مع مكان واحد يخصه ليحاور ذاكرته,الذاكرة التي رفضت أن تقدم تنازلات وأن تسامح بحقوق المواطنة المشروعة لفردانيته.

 الطبيعة الصامتة:

مقولة "لوحة عبدلكي لا تشبه سوى لوحة عبدلكي", التي أحبذ أن استعملها بالتعليق على نتاجه البصري, رغم كل المحاولات النقدية ذات المنهج الراكن لرتابة الخلع الاصطلاحي المنهجي, ومحاولة ربط تجربة عبدلكي بتجربة مواطنيه أمثال فاتح المدرس ونذير النبعة في حين,وفي أحايين أخرى ردها إلى تجربة المدرسة الأميركية.تبقى اشتغالات عبدلكي البصرية من قبيل"السهل الممتنع",والحاضرة عبر استعارة تشخيصات هوامش الحارة الدمشقية, حيث يستحضر أشياء هامشية واعتيادية نصادفها في حيواتنا كل يوم, ويبثها سر خلقه وجلعه الإبداعي, القادر المقتدر على الارتقاء الاعجازي البصري, والتملص من حالة الجمال الفوتوغرافي نحو الجمال النتاجي. هذه الأشياء هي جوهرية ما تصبو إليه لوحاته,من أسماك مقطوعة الرأس وأخرى حاضرة بأجسادها الكبيرة وعلب السردين والأواني الفارغة والمزهريات وأشياء أخرى كثيرة,ولكنها تعيش عوالم أخرى متوازية, غير تلك التي نراها فيها بالواقع.الرجوع إلى النبع الأول وصوغ هوية مائزة في مشروعه البصري.

 الترحال:

بقيت لوحات عبدلكي تسفر إلى دمشق لوحدها لسنوات من المنفى القاسي,حتى جاءت لحظة العودة إلى دمشق مع فنان اللوحات سنة2005.اللوحات التي تعبت الترحال في معارض فردية شهدتها عواصم عربية منها القاهرة والكويت وعمان...إلخ. حصد خلالها عبدلكي الشهرة والجوائز, ناهيك عن معارض جماعية في عواصم أوربية منها باريس وألمانيا. ليكون خان أسعد باشا الدمشقي مكان معرضه الأول, الذي تبعه معارض في"غاليري أتاسي"و"غاليري أيام" في دمشق, وآخر في مدينة حمص.

عادت ذاكرة "عبدلكي" إلى المكان الذي لم يبارحها: "دمشق". وأكمل الاشتغال على مشروع الطبيعة الصامتة أو الجامدة أو الساكنة, وبغض النظر عن التوصيفات النقدية, هي طبيعة مليئة بالحيوات الملونة على نقيض الأبيض والأسود المتخلل انحناءات وفارغات اللوحة المتمردة على الديكاتور والاستبداد, عبر أسلوب كاريكاتوري قل مثيله البصري. لم تعرف ذاكرة بصرية تزاوج بين المكان والنتاج مثلما, التزاوج بين ذاكرة الحارة الدمشقية ونتاج عبدلكي البصري.

 البطاقة الشخصية:

يوسف أحمد عبدلكي من مواليد مدينة القامشلي, شمال شرق سوريا, سنة1951, حائز على جائزة الفنون الجميلة من جامعة دمشق سنة1976, ودبلوم في الحفر من المدرسة الفرنسية سنة1986, والدكتوراه من جامعة باريس الثامنة سنة1989, لديه عديد كبير من المعارض الفردية والجماعية, وتحوز متاحف مشهورة, أمثال متحف معهد العالم العربي في باريس, والمتحف الوطني في بريطانيا,أعمال له.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات