دوائر خاصة:
مدينة باريس ونتيجةً لكونها قبلة سياحية وثقافية عالمية تشعر أنها مركز الكون, ولكن عشرات من اللاجئين السوريين الوافدين إليها، يعيشون في دوائر خاصة, وكأنهم يحتمون من الضجيج والصخب اللذان يحطان بهذه المدينة. دوائر خاصة تشمل المطاعم السورية التي تجدها انتعشت بشكل يحقق تفوقاً على ما قبل موجة النزوح الأخيرة, حيث كانت في الأمس القريب تقتصر على السياح من الجنسيات العربية وغيرها. ولكن اليوم تجد الكثير منها منتشر في العاصمة الفرنسية -باريس- وتجد اللهجة السورية حاضرة تبحث عن دفئ نهر بردى في صدى تموجات الكلمات المتبادلة على هامش الطعام والشراب, "مدينة بحجم باريس لا يمكن عقد صلات وتواصل معها,خلال فترة قصيرة, تحتاج لكثير من الوقت الذي تذلل عبره العوائق النفسية والتقنية للتعايش وإقامة أواصر صلات معها, خلال هذا الوقت, نحتاج لفسحة من الحميمية المفتقدة في ظل مجتمع فرداني ومادي, لذلك تجدني آتي بشكل دوري لهذا المطعم حيث أجد نكهة الأطعمة السورية ممزوجة مع شذرات اللهجات المحببة على قلبي "بهذه الكلمات يعبر الناشط عامر أحمد, لاجئ سوري في فرنسا, عن أسباب مجيئه الدوري لأحد المطاعم السورية في منطقة "الكانيزم" بالدائرة 15 في باريس, ويكمل أحمد: "هنا على كل لاجئ أن يمر عبر مرحلة انتقالية قد تفوق السنة لكل تستكمل حصولك على أرواقك الرسمية, خلال هذه السنة تجد الكثير من أوقات الفراغ ولا تجد سوى هذه الأمكنة متنفساً بحكم عدم قابلية الفرد السوري للفرح في ظل هذه الموجة من التراجيديا المفجعة التي تنشرها آلة حرب النظام, هذه من الجهة الأولى", أما من الجهة الثانية لرؤية المعيقات الاندماجية, فأحمد يعتقد أن فقدان أدوات التواصل الأداتية, متجسدةً باللغة تعتبر عائقاً آخر يجعل من الدوائر الخاصة مكاناً للاحتماء من صخب وضجيج لا نجد موطئ قدم لنا فيه: "لا يمكن أن تعيش في قلب هذه المدينة المنفتحة بقدر محافظتها الثقافية إذا لم تكن تتقن اللغة الفرنسية".
دوائر عامة!
بعد تخطي اللاجئين السوريين هنا للمرحلة الانتقالية والتي قد تستغرق سنة, يصبح بمقدورهم الدخول في سوق العمل والتعليم, وهذه هي نقطة التفوق الجوهرية التي يحققها اللاجئون في فرنسا على نقيض شركائهم في المواطنة في الداخل السوري وفي دول الجوار وما بعد الجوار, وتجد غالبية السوريين في فرنسا بالعموم وباريس على وجه الخصوص, يتجهون للدراسة الجامعية ويفضلونها على اقتحام سوق عمل نموذجي يحتاج للكثير من الأسباب النموذجية,التي تبدأ مع إتقان عدة لغات ولا تنتهي مع طلبات الخبرة في ظل عرض السوق الكبير وطلبه المحدود.
جامعة باريس الثامنة لوحدها,استقبلت العام المنصرم ما يقارب الخمسين طالبا جامعياً من سوريا "فرنسا متفوقة على الصعيد الأكاديمي وهذه فرصة لتمكيننا من تحقيق خطوات إنمائية في مجال البحث العلمي" بالكلمات سالفة الذكر, يعبر عن رأيه أمين حسين, طالب ماجستير بالعلوم السياسية. حسين الذي اضطرته الظروف الأمينة نتيجة نشاطه المدني بالثورة السورية لمغادرة البلاد وهجر مقاعد الدراسات العليا في جامعة دمشق, حيث تخرج من كلية الأدب الفرنسي فيها,وكان يعد أطروحة في نفس المجال حينما انطلقت الثورة,وبعد الثورة وجد نفسه منتقلاً لحقل آخر يجد أن وضع البلد الحالي يستدعيه, وهذا الانتقال الحالي مما تتحيه قوانين الجامعات في فرنسا.
دوائر مساعدة!
اللاجئون السوريون في فرنسا يسمعون بالكثير من أسماء الجمعيات والشخصيات السياسية والعامة وعدد كبير من النشاطات والظهورات الإعلامية التي تتحدث عن مساعدتهم في ظل وراثة شرعية نظام ساقط. ولكن على أرض الواقع لا تجد واقعاً ملموساً لهذا الضجيج, وتجد أن غالبية اللاجئين السوريين الوافدين إلى هنا يعتمدون على ذواتهم ودائرة معارفهم المجتمعية لكي يستطيعوا الاستمرار, ولا حياة تلمس هنا للمجلس الوطني ولا الائتلاف الوطني المفترض أن لديه سفير ومكتب في دولة تعتبر من أهم أصدقاء المعارضة السورية. ويتم جمع أموال هنا وهناك غير خاضعة لآليات رقابية أو حسابية من قبل هذه الشخصيات والجمعيات العاملة خارج سياق المعارضة السورية الرسمية من مجلس وطني وائتلاف وطني, وحينما يبادر أحدهم للسؤال عن توظيف هذه الإمكانيات, تجد التعويذة السحرية حاضرة, "نحن نبعث للداخل", وتذكرك هذه الجملة بتعويذة للنظام "النفط بأيدٍ أمينة". "نحن عم نبعث للداخل" جملة ارتكب باسمها الكثير مما يقال على عجالة, ويبقى التفرد والتوسع له في مستقبل قريب تكون فيه سوريا الغد استعادت عافيتها السيادية, واستكملت تحرير أرضها من المحتل الأسدي.
التعليقات (16)