العودة إلى حمص، الثورة كما صنعها أبناؤها

العودة إلى حمص، الثورة كما صنعها أبناؤها
وقع الاختيار على الفيلم الأخير للمخرج طلال ديركي "العودة إلى حمص" ليكون عرض الافتتاح لمهرجان امستردام "ايدفا" لعام ٢٠١٣ وهو واحد من أبرز المهرجانات المعنية بالسينما التسجيلية على مستوى العالم.. لطلال ديركي عشر سنوات غنية على المستوى التقني والبصري في مجال الإخراج السينمائي، ومع أنها ليست المرة الأولى التي يقوم فيها صاحب فيلم "بطل البحار" بإخراج عمل تسجيلي يرتبط بالثورة السورية، إلا أن عمله الأخير العودة إلى حمص, وهو الفيلم الطويل الأول لطلال، سيترك بصمته المميزة ووقعه الخاص في تاريخ السينما التسجيلية السورية وكل ما تم تقديمه من أعمال بصرية واكبت الثورة السورية.

يمكن القول بأن طلال ديركي وثق تفاصيل الثورة منذ البداية بشكل أجزاء، سواءً بفليمين وثائقيين على مستوى عالٍ من الاحترافية، أو بعشرات التقارير الأخبارية المصورة التي تعكس مهنية واضحة، وخطراً شديداً تعرض له ديركي لإيصال الحقيقة كما هي بعيداً عما يصورها الإعلام السياسي. والآن، يفاجئنا طلال بعمله الأخير "العودة إلى حمص"، حيث يجمع فيه كل الأجزاء، ويوثق فيه حكاية كاملة من حكايا الثورة. "العودة إلى حمص" بوابة صنعها طلال ديركي ليشركنا في عالم التفاصيل لحياة عبد الباسط ساروت خلال السنوات الثلاث الماضية بكل ما اعتراها من تطورات.

فمن حارس لنادي الكرامة لكرة القدم يشارك شعبه بثورة الحرية والكرامة، ثم ما يلبث أن يصبح أهم مغنٍ في الثورة السورية حيث كانت تصدح المظاهرات بـ "جنة يا وطننا" في كل شبر. إلى أن تسارعت الأحداث ومع ارتفاع سوية البطش والعنف الذي مارسه النظام لم يجد باسط نفسه إلا وقد حمل السلاح ليشارك في فك الحصار عن حمصه، وليفقد بعدها أخاً وأقارب وأًصدقاء كثر ثم ليصبح قائداً لإحدى كتائب الجيش الحر في المنطقة. شخصية استثنائية كشخصيات كثيرة أخرى ظهرت في السنوات الثلاث الماضية، ولكن القدر شاء أن يجمعها بمخرج ثائر لم يُعِر أي انتباه لما سيتعرض له من مخاطر مقابل نقل الصورة الحقيقة لما قدّمه الشعب السوري من بطولات وما عاناه من قتل وتشريد في الملحمة التاريخية لثورة الحرية والكرامة.

يقع هذا التقرير المطوّل في شقين، الأول هو حوار مع قحطان حسون "أبو عدنان"، وهو المصور الأول في الفيلم. أما الشق الثاني فهو حوار مع مخرج "العودة إلى حمص" طلال ديركي:

- حدثنا عن تاريخ علاقتك بالكاميرا. هل تعتبر أن لديك تجربة احترافية في التصوير قبل الثورة، ومتى بدأت في توثيق أحداث الثورة على الأرض؟

علاقتي بالكاميرا في بادئ الأمر كانت محصورة في مجال عملي في الدعاية والإعلان، ومع بداية ثورة الكرامة تحوّلت عدستي لتوثيق وفضح جرائم وانتهاكات النظام. المرة الأولى التي استخدمت فيها الكاميرا خلال الثورة، وهي من أكثر اللقطات التي تركت أثراً في داخلي، عندما وثّقتُ لحظة استشهاد ابن خالي قبيل اعتصام الساعة في حمص 17/4/2011. ومنذ ذلك اليوم وأنا أوثق يوميات الثورة، وجرائم النظام وانتهاكاته. كانت عدستي تسجّل انتهاكات رجال الأمن وإطلاق الرصاص على المتظاهرين السلميين العزّل في حمص.

- متى طُرحَت فكرة العمل أمامك لأول مرة؟ وكيف وقع اختيار طلال ديركي عليك كمصوّر؟

حدث ذلك في السنة الأولى للثورة عندما أقدم جيش النظام على وضع الحواجز في عاصمة الثورة لفصل الأحياء الثائرة عن بعضها، وتحديداً حينما قام بنصب الحواجز في شارع القاهرة بين الخالدية والبياضة. وقتها جاء صديقي أسامة الحمصي الذي كان يشاركني في توثيق جرائم النظام وبرفقته المخرج طلال ديركي والمنتج عروة نيربية وطرحوا فكرة فيلم يسلّط الضوء على حياة عبد الباسط والناشطين في ظل الثورة وذلك بسبب علاقة الصداقة الوطيدة التي تربطني وباسط من قبل الثورة، وأيضاً لأن جودة المواد التي كنت أصورها أثارت إعجاب المخرج، فوقع الاختيار عليّ لتصوير العمل .

- إذاً فهناك صداقة قديمة تربطك بباسط منذ قبل الثورة.

نعم، نحن أصدقاء مقربون منذ زمن طويل. باسط كان حارس مرمى نادي الكرامة للناشئين والشباب وكان أحد أقاربي معه في نفس الفريق، ثم صار بيننا صداقة قوية. لقد كنت مواظباً على حضور مباريات الفريق، وكان باسط يزورني دوماً.

- بالعودة إلى عملك كمصور لفيلم استغرق العمل عليه ثلاث سنوات. حدثني عن طريقة تواصلك بطلال ديركي. كيف كنتما تجدان حلولاً للمشاكل التي واجهتماها نتيجة عدم قدرة المخرج على التواجد بشكل مستمر خلال أوقات التصوير، ناهيك طبعاً عن الأعطال الفنية "تغيير عدسات –شحن بطاريات وغيرها"، خاصة وأن حي الخالدية يعد المكان الأكثر حصاراً وانقطاعاً عن كل مقومات الحياة.

التواصل بيني وبين المخرج كان عبر الانترنت وكان في غاية الصعوبة لعدم توافر الانترنت الفضائي. غالباً ما كنت أستعين بخط (3 جي) وفي ظروف قاسية جداً. حيث كنت مضطراً في معظم الأحيان إلى الصعود إلى أسطح الأبنية لتمديد سلك الإشارة الخاص بالانترنت. وبالطبع كل هذا في ظل انتشار كثيف للقناصين، والقصف المتواصل ليلاً ونهاراً من قذائف هاون وصواريخ وغيرها. عداك عن أن النظام كان يقطع خدمة الإنترنت في أغلب الأوقات.

في بداية تصوير الفيلم كان تحميل المواد المصورة وبالجودة المطلوبة أمراً أشبه بالمستحيل لسوء الشبكة، ولذلك فقد لضعف كنت ألجأ إلى تخزين المواد على (هاردات) وتهريبها إلى داخل سوريا أو خارجها، وهذا كان ينضوي على صعوبة ومخاطرة شديدة لكثرة حواجز النظام وما قد يحصل للأشخاص الذين يقوم بتهريب هذه المواد في حال تم كشفهم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، اضطررنا خلال الحصار أن نخزّن المواد عبر (فلاش ميموري) ثم أن نربطها بأرجل الحمام الزاجل ونرسلها إلى حي الوعر في مدينة حمص. أمر كهذا كان يشعرنا وكأننا نعيش في العصور الوسطى بدون أي مبالغة. الكهرباء مقطوعة أغلب الوقت، ولشحن البطاريات وغيرها من الأدوات اللازمة كان علينا أن نستعين بالمولدات التي تعمل عبر الوقود. لكن هذا الحل لم يكن ناجعاً أيضاً، فما لبث الوقود أن نفذ مما اضطرنا إلى أن نتسلل لتوصيل أسلاك كهربائية مخفيّة من الأحياء الموالية للنظام التي كنا نُقصف منها وهي كما يعلم الجميع تحوي كل سبل الحياة بعكس من في داخل الحصار. كان هذا من أجل إعادة شحن البطاريات فقط، وقس على ذلك ...

- بحكم ملاحقة النظام لباسط، وبحكم الحصار الخانق على أحياء حمص القديمة، فقد كانت التنقلات أمراً ضرورياً وفي غاية الخطورة بنفس الوقت. هل كنت ترافق باسط خلال تنقلاته، وهل تم تصوير أي أجزاء من الفيلم في خارج حمص؟

التنقلات التي قمنا بها كانت عبر ما يعرف بالطرق الثورية أو طرق الموت لأن الموت يحاصرها من جميع جوانبها. ولكن الكم الأعظم من المواد تم تصويره داخل حمص المحاصرة ومن ثم في الريف الحمصي. أذكر أنه في منتصف شهر رمضان من العام 2012 في حمص المحاصرة جاء باسط ليخبرني بأنه سوف يخرج من الحصار عبر مجرور يربط الأحياء المحاصرة بالريف وذلك لإدخال الغذاء والدواء والسلاح، وأيضاً ليستنهض همة المجموعات بالريف لرفع الحصار عنّا. أصررت على أن أذهب معه حينها، فرفض وقال لي لن أتأخر أكثر من يوم. غافلته ولحقت به فمدة يوم ليست بالكثيرة، وعند مدخل المجرور أقنعته بالذهاب معه وفعلاً دخلنا ذلك المجرورمعاً. وبعد ساعات من السير الشاق وصلنا إلى الريف الحمصي. في اليوم التالي جاءنا الخبر بأن النظام قد كشف أمر المجرور وقام بتفخيخه، فحاولنا جاهدين أن نبحث عن طريق آخر وكاد الأمر أن يكلفنا حياتنا وبدون جدوى، وعلقنا بالريف الشمالي. خلال هذا الوقت كانت عدستي وباقي معدات التصوير داخل الحصار، فكما أسلفت أن الأمر لن يأخذ أكثر من يوم. في هذه الأثناء قام باسط بتشكيل مجموعة في الريف بينما طلبتُ من طلال أن يؤمّن لي كاميرا لأقوم بتصوير محاولات فك الحصار عن العدية من الريف، وبالفعل صورت الكثير من مشاهد المعارك والاشتباكات وانتهاكات النظام. القدر الأكبر منها في حي دير بعلبة، وكان لمشيئة الله أن باءت هذه المحاولات بالفشل. بعد خروجنا من دير بعلبة طلب مني باسط أن أذهب حي بابا عمرو، وفي هذه الأثناء استطاع بعض الثوار التسلّل إلى الحي وطلبوا النصرة من باسط فهب إليهم.

في اليوم الموعود ارتدى باسط والشباب جعبهم وحملت كاميرتي ومشينا في جنح الليل أكثر من اثنتي عشرة ساعة إلى أن وصلنا إلى الريف الشرقي. هناك استرحنا لمدة يومين، ثم تابعنا سيرنا إلى جبال القلمون، ومن ثم وصلنا إلى يبرود عبر طرق يحيط بها الموت من كل الجهات، وما إن وصلنا إلى هناك حتى وردنا خبر انسحاب الثوار من حي بابا عمرو، ولأن المسافه إلى لبنان كانت قريبة وباسط وباقي الثوار يستريحون في يبرود، فقد ذهبتُ إلى بيروت للقاء المخرج طلال والذي عاد معي لكي يلتقي بباسط. تلك كانت المشاهد التي صورتها خارج حمص الحصار.

- ثلاث سنوات رافقكم فيها الخطر والموت أكثر من الهواء الذي تتنفسونه، ولكن بالتأكيد كان هناك لحظات معينة من الخطر أشد بكثير من غيرها. حدثني عن واحدة منها.

يصعب الحديث عن تلك اللحظات. مفهوم كلمة الخطر يختلف تعريفه عندي من يوم إلى آخر، ففي معظم الأيام تنجو من الموت بأعجوبة ويكون الحد الفاصل بين الحياة والموت أقل من شعرة. ولكن الآن بينما نتحدث، يمر أمام عينيّ موقف حصل في حمص المحاصرة عندما كان جيش الأسد يحاول أن يقتحم حيّي القصور والقرابيص. كنت وقتها متواجداً في المشفى الوطني، حيث كانت تلك أقرب نقطة يمكن من خلالها تصوير عملية اقتحام الحي. بدأت دبابات النظام وعربات الشيلكا بتمشيط المنطقة وإمطارها بوابل من القذائف والرصاص، وبشكل خاص على مبنى المشفى الوطني. شعرت بإصرار عظيم على أنني يجب أن أنقل الصورة التي أمامي إلى العالم كله. ومع أن الرصاص والقذائف تخترق الجدران من حولي إلا أنني لم أتحرك من مكاني أبداً، وهذا المقطع مُصوّر في الفيلم بكل وضوحٍ. هنا يجب أن أذكر صديقي سمير شلب الشام، والذي كان بجانبي وكنت أطلب منه أن يختبئ خلف الساتر، ولكن رصاصات الغدر كانت أسرع فأصيب واستشهد.

- أبو عدنان بعد هذه المدة الطويلة من العيش، والتنقل، ومشاركة لحظات الفرح والحزن والأمل والفقد مع الساروت عبد الباسط، كيف ترى أبو جعفر عندما تكون العدسة مغلقة؟

شعور غريب لا يوصف ولا يحس بهذا الشعور سوى فئة من البشر يمتلكون قلوباً تشبه إلى حد بعيد ألبوم صور فاخر لمصور محترف يقف طويلاً من أجل التقاط صورة تشبع نهم عينه وعدسته. بعض المشاهد عندما تتسرب لروحك تُخرجك من واقعك، كأن تتشارك مع صديقك سكون الصباح الذي تقاطعه زقزقة العصافير وحبات الندى فوق النوافذ المغلقة بزجاج عازل وستائر معتمة.

- بعد أن شاهدت "العودة إلى حمص" بنسخته الجاهزة للعرض للمرة الأولى، هل شعرت بأنه استحق السنوات الثلاث وكل ما بذلته خلالها لإتمامه؟

شعرتُ بأنني قدمت شيئاً عظيماً بالصوت والصورة وأقرب ما استطعت لتجسيد واقع يوميات الثورة. في هذا العمل نقلت روح الثورة كما يعيشها المقاتلون والناشطون إلى العالم الخارجي، والمغتربين السوريين، والأجيال القادمة. ولكن يبقى من عاش الواقع ليس كمن سمع به أو رآه عبر الشاشات.

- بماذا شعرت بعد أن وقع الاختيار على الفيلم ليكون عرض الافتتاح في مهرجان امستردام للأفلام الوثائقية "ايدفا" في دورته السادسة والعشرين؟

شعرت بنوع من الراحة النفسية. لأن هذا العمل المضني والذي تخلله المئات من الشهداء والمصابين في يوميات تصويره، والمعاناة التي يعانيها أبطال حمص في سبيل تحرير مدينتهم سوف تنقل للرأي العام العالمي، وسيكون محط أنظار الجميع خصوصا و أنه فيلم الافتتاح. والتي أعتبرها باكورة حصاد ما عملت عليه، وهو عمل لن يضيع وسيبقى لأبنائنا وللأجيال القادمة.

- أخيراً أبو عدنان، هل كنت لتُفضّل أن تجلس على كراسي الصف الأول خلال عرض الافتتاح عن مكانك الآن؟

قطعاً لا. كل ما كنت أتمناه أن أشاهده في حمص (المحررة) مع البطل عبد الباسط، والشهيد بلال ونيش، والمعتقل أسامة الحمصي، وباقي أصدقائي درب الثورة والنضال.

الشق الثاني، وهو حوار مطوّل مع طلال ديركي مخرج العمل:

– طلال ديركي، قبل عملك الأخير "العودة إلى حمص"، أخرجتَ فيلماً بعنوان "اللجاة، أيام مع الجيش الحر" تم إنتاجه بالتعاون مع قناة العربية، وسبقه أيضاً فيلم "آزادي" بإخراج مشترك مع عامر مطر وبدعم من مؤسسة الشارع للإعلام والتنمية، إضافة إلى عشرات التقارير الأخبارية التي غَطّت مختلف نواحي الثورة في دمشق وريفها، ودرعا وريفها، وبالطبع في حمص وريفها. العمل الأخير لك يبدو تتويجاً لمجموعة إنجازاتك في الأعوام الثلاث الماضية. ومع أن هذه ليست بالمرة الأولى التي يخطف فيها عمل لك الأضواء ويشارك في مهرجانات إقليمية وعالمية ولكنّه كان الأكثر خطراً عليك من ناحية الحصار الذي كان مفروضاً على أحياء حمص القديمة حيث كان يتم تصوير تفاصيل باسط. من أين جاءت فكرة العمل في البداية؟ وهل كان الاسم المختار له هو "العودة إلى حمص" أو أن تعديلاً لاحقاً طرأ عليه؟

الأعمال السابقة الوثائقية كانت تلفزيونية أخبارية صحفية لأهداف ثورية لا أكثر، هذا عملي السينمائي الوحيد في ظل الثورة، العمل بالأساس لا يستند إلى فكرة محددة. الحدث في سوريا وفي حمص قاد شخوصاً وقع اختياري عليها للكثير من الأسباب إلى خلق حدث قصصي تاريخي ملحمي، وفي تفاصيله الكثير من الدراما، وقصة الفيلم تحمل في تفاصيلها الكثير من الأفكار. حاجة السينما التسجيلية في سوريا إلى الحياة واللحظات الحقيقة للفعل، تشبه حاجة السوريين للثورة. الأحداث تمر أمام أعين شخوصي وأمام عدسة الكاميرا. أحداث بعيدة كل البعد عن الرتابة والضوابط السابقة. باسط منذ لحظات تحوله من لاعب كرة إلي منشد في تظاهرات حمص. أعطى لنفسه العنان لخوض حرب هو الحلقة الأضعف فيها، لا يملك على أرض الواقع سوى الأمل والإيمان بالهدف، أمام القوة والخبث واللاإنسانية من قبل خصمه (نظام الأسد)، لذلك فإن كل الخيارات التي اتُّخذَت فرضت بالغصب ومنها خيار التسليح. وكما في البنية النصية السارترية، نحن لا نتعدّى أن نكون جزءاً وتفصيلاً من الحدث الأعظم، لكن التحوّل في شخصية باسط ليكون الفاعل والمحرك للحدث في القصة هو تماماً ما يسمى العودة إلى حمص وهو الفصل الأخير من الفيلم المُكوّن درامياً من ستة فصول، والخيار الذي اتّخذَهُ على مسووليته في مغادرة الحصار لجلب القوة المناسبة من خارج المدينة بغرض تحريرها كهدف أسمى. اسم الفيلم في البداية وفق الخيار السلمي للحراك كان (نشيد الأناشيد)، ثم اخترنا الاسم الحالي في يوم الذي غادر فيه باسط الحصار في أواخر شهر آب ٢٠١٢.

- نظراً للتشديدات الأمنية القاسية وأيضاً للظروف اللاإنسانية التي تمر بها سوريا ككل والأحياء المحاصرة في حمص على وجه التحديد، فمن الطبيعي أن العمل كان مهدداً بالتأجيل أو الإيقاف نهائياً طيلة الوقت. ولكن إصراركم هو الذي حملكم على متابعته إلى صالة العرض. ولكن طلال بالتأكيد مررت بلحظة شعرت فيها بأن العمل بحاجة إلى معجزة لربما من أجل أن يستمر. ما الذي حصل؟

العمل طوال فترة التصوير كان مهدداً بالتوقف أو أن يكون شيئاً أخر، لكن ليس نسخة الشريط الحالية. حياة الشخوص بالدرجة الأولى كانت مهددة بالاعتقال أو الموت، حياة طاقم الفيلم مني ومن المصور الشجاع قحطان الذي صور أخطر لقطات الفيلم على خط النار، والمنتج عروة الذي تم اعتقاله على خلفية الفيلم. لا يوجد فترة محددة وحيدة شعرت بها بالتهديد، دائماً كان القلق ظلّي. صعوبة إخراج المواد وغيرها من الأحداث، وضياع قسم منها. لكن الفترة التي رافقت اعتقال أسامة واختفاء باسط بعد أن حوصر لمدة ١٣ يوماً في البيّاضة، تلك كانت أكثر اللحظات ثقلاً وخوفاً.

- متى أدركت بأن ما لديك من تصوير بات كافياً لتنتقل إلى المرحلة التالية؟

القصة كما كتبت في السكريبت الأساسي وما أسميها بالخطة (أ) انتهت مع عودة باسط إلى حمص في شهر تموز ٢٠١٣.

- ماذا كان رد فعل باسط عندما أخبرته أن "العودة إلى حمص" صار جاهزاً للعرض؟

تمكن باسط وهو في الحصار من مشاهدة نسخة عبر قمنا بتحميلها له عبر الانترنت، وحسب ما علمت فقد ساهمت في رفع معنوياته ومعنويات باقي المجموعة، وخصوصاً بعد خسارة خيرة من ثوار حمص وسقوط الخالدية بيد نظام الأسد.

- عن عدم قدرتك على التواجد طيلة الوقت خلال التصوير، ما هي الآلية التي عملت عليها لحل هذه المشكلة؟ وهل أدى ذلك بشكل ما إلى أن يخرج العمل بصورة مغايرة لما كنت تتأمل منه؟

تواجدت في حمص لتصوير الفيلم ما يقارب الست مرات، بفترات زمنية مختلفة، كان الموضوع قد شكل قلقاً في بداية التصوير وتحديداً في الأشهر الستة الأولى، لكن وبعد الاعتماد والتنسيق الفني مع المصور قحطان حسون ومشاهدة النتائج، تأكدنا أننا تجاوزنا مخاوفنا. إخلاص المصور ومن يساعده للمهنة جعل النتائج والتنسيق يتم بأفضل حالته. من المؤكد أنني لو كنت متواجداً طوال تصوير الفيلم لكانت البنية السردية للفيلم والحلول البصرية مختلفة، لكني أشعر بالرضى الكبير عن المادة البصرية لدينا.

– تم العمل على الفيلم في عدّة دول "لبنان، ومصر، وألمانيا" كما أذكر، وهو بإنتاج مشترك سوري ألماني. هل شعرت أن ما صُبَّ فيه من جهود وتمويل هو كافٍ ليُعبّر عن الرسالة التي أردت أن توصلها من خلاله؟

أغلب مونتاج الفيلم تم في ألمانيا، فقط عملية انتقاء المواد حصلت في القاهرة. في برلين كان للمونتيرة العالمية آنا فابيني دور كبير وكذلك للمنتج الألماني هانز روبرت أيزنهاور. تحدٍ كبير فُرض علينا لنقل تفاصيل تعتبر محلية في الكثير منها، ونقلها في سياق مفهوم عالمي. كنا قريبين بالشكل الكافي من لحظات السوري الصلب؛ قوته وحزنه وتعبه ويأسه وانفجاره. الإنسان السوري هو حالة عالمية لا منازع له في محنته، وبالنظرة العامة للفيلم تشاهد مجموعة من الثوار خسروا أغلب معاركهم، لكنك مؤمن بأنهم أبطالك، وأنهم بشجاعتهم قد انتصروا رغم كلِّ الهزائم والخيانات. هذا ما أحلم به هنا، أن تبقى هذه القصة عن سوريا بكل تفاصيلها حاضرة بذاكرة الشعوب.

- على صعيد الفنون البصرية، بات من الواضح أن السينما التسجيلية تزداد انتشاراً ويمكن ملاحظة ذلك من خلال كم الأفلام الهائل التي تم العمل عليها سواءً عن طريق منظمات معنية بالأمر أو من خلال مبادرات فردية، ولكن بشكل عام لم تزل تفتقر إلى الجودة والمعايير بسبب نقص الخبرة وقسوة ظروف العمل. هل سنشاهد مستقبلاً أفلاماً سوريّة تحظى باهتمام عالمي، وهل أنت متفائل بهذا الخصوص؟

يوجد الكثير من الخبرات السورية في هذا المجال، لكن لم تصل السينما السورية إلى مكانة واضحة على الخريطة العالمية بسب ضعف الإنتاج، وقلة المساحة المباح بها للعمل، وتحديداً قبل ثورة الكرامة. كما قلت هناك العديد من التجارب ومن السينمائيين الواعدين، لكن تبقى المشكلة الإنتاجية حائلة دون أن تصل السينما التسجيلية والروائية حتى لمبتغاها. فما الذي دفعني مسبقاً للتوقف لسنوات عن السينما والعمل في برامج تلفزيونية ترفيهية، أليس انعدام الإنتاج السينمائي أو سيطرة السلطة وفناني البلاط عليها؟؟

"العودة إلى حمص": بيانات الهويّة.

فيلم لـ طلال ديركي

المنتجون:

عروة النيربية.

هانز روبرت آيزنهاور.

منتج مشارك: ديانا الجيرودي.

مونتاج: آن فابيني.

مونتير مشارك: مارتن رايمرز.

مونتاج تحضيري: سفين كوليك، كمال ملاخ، أحمد عبد الرازق، أحمد دوا.

التصوير: قحطان حسون، أسامة الحمصي، طلال ديركي، وعروة النيربية.

إدارة الانتاج: غيفارا نمر – سوريا، كاي هولمبرغ – ألمانيا.

تنفيذ الإنتاج: الشهيد بلال المحمد (الونيش)، محمود الفهد.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات