لطالما شهدنا هجمات شرسة على صفحات وسائل الإعلام الثورية، أو صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وبشكلٍ غير مبرر على شخصية معينة، أو منشور معين، لأنه يطرح انتقاداً لظاهرة مرتبطة بتوجه إيديولوجي أو فكري ما، إلا أن القائمين على هذا التوجه، ولضعف في حجتهم يلتجئون إلى التجييش والتحشيد الإعلامي لكم الأفواه التي تتجرأ على انتقادهم.
وكمثال على ذلك، يكفي أن تكتب كلمة "داعش"، أو تتفوه بها، كي تنهال عليك عبارات النصيحة، وأدعية الهداية إلى الصراط المستقيم، وكأنك قد ارتكبت إحدى الموبقات، هذا إن كنت من جيدي الحظ، أما إذا كنت من الذين يتمتعون بـ"صفحة سوداء"، فستنهال عليك الشتائم واتهامات التخوين من كل حدب وصوب، وقد تصل إلى حد التهديد بـ"التشويل" حيث كنت!
"طنابر الدفش" هؤلاء، وجدوا يوماً ما في الشاعر سليمان العيسى طريدة دسمة، وتمت مهاجمته بطريقة غير مبررة. كانت جلّ الاتهامات تنصب عليه متهمة إياه بأنه واحد من أعمدة الفساد بحكم انتمائه الطائفي، ولانتمائه الفكري لحزب البعث في البدايات، علماً أن الرجل كان يردد مقولة شهيرة: "كنت مع البعث عندما كان حلماً، وحين تحول إلى حزب تركته".
ومع ذلك لم يشفع له هذا التصريح، وكان مطالباً بموقف من الثورة السورية، وهو الرجل الذي ناهز التسعين، في وقت كان خلاله طريح الفراش لمدة طويلة.
ليست المشكلة في أن تنتقد شخصاً إن كان رأيك مبنياً على قناعات شخصية، أما وأن تتبنى رأياً لمجرد أن تحشيداً وتوجهاً إعلامياً، صادرين عن تيار معين يقومان بتوجيهك، فهذا ما لا يمكن تقبله في حال من الأحوال!
حسناً..قد يتقبل هذا الموقف فيما يتعلق بشاعر سوري، يشكل انتماؤه الفكري والطائفي إشكالية لدى البعض، ولكن ما لا يمكن تبريره هو حالة الهجوم غير المبررة من قبل بعض السوريين على الشاعر "أحمد فؤاد نجم" المعروف في الأوساط المصرية باسم "الفاجومي" نسبة إلى الفيلم الذي أنتج عام 2011 في مصر، وتناول سيرته الذاتية .
ما إن تم الإعلان عن وفاة الشاعر "أحمد فؤاد نجم"، حتى راحت وسائل الإعلام تتناقل ذلك الخبر وتنشر قصائده التي تشغل حيزاً كبيراً في وجدان المثقفين العرب والنخب الثورية، أولئك الناس الذين تربوا على قصائده المغناة بصوت "الشيخ إمام"، لأنها كانت تجهر بما يعتلج في ضمير أمة أضناها التهميش وأرهقتها الديكتاتورية، فوجدت في كلمات قصائده حالة انعتاق منهما.
غير أن هجمة غريبة شنها بعض الأشخاص الذين ينتمون إلى التيارات الإسلامية على "أحمد فؤاد نجم"، متهمين إياه بأنه ناصر النظام السوري معتمدين على مقطع يوتيوب ادعوا أنه "يهاجم السنة ويمتدح الشيعة"، وبالعودة إلى اليوتيوب نفسه لم أعثر إلا على مقتطفات من لقاءات وتصريحات للشاعر الراحل، مركبة بطريقة معينة لإيصال مقولة تتفق مع توجه مطلقي الفيديو عبر "يوتيوب". إلا أنه كانت هنالك عشرات المقاطع التي تتحدث عن مواقفه المناهضة للنظام السوري، ورسالة وجهها لـ"حسن نصر الله" ينتقد فيها مواقفه تجاه الشعب السوري، ويدين موقف "حسن نصر الله" من الشعب السوري وتبريره لقتله؛ الكم الهائل وغير المبرر من الشتائم والاتهامات ذات الصبغة الطائفية ، توضح مدى قوة "الدفش" التي تعرّض لها هؤلاء!
من خلال ما سبق، وبالعودة لمواقف الشاعر الراحل، والذي سجن زمن عبد الناصر ومع ذلك فقد كان وفياً لمعتقداته ودافع عنه حيث اقتضى الأمر منه ذلك، محيّداً مشاعره الشخصية جانباً.واعتقل في عهد "السادات"، وكان ضد نظام "محمد حسني مبارك" الأمني. وهو الذي كان متزوجاً من الفنانة "عزة بلبع" التي نالت نصيبها من الاعتقال أيضاً، ووالد الناشطة "نوارة نجم" والتي كانت واحدة من الشبان الناشطين الذين فجروا ثورة 25 يناير في مصر، ليتم إقصاءهم فيما بعد عن المشهد السياسي. غير أن ما فجّر موجة الغضب هذه ضده هو موقفه من حكم الأخوان في مصر، فقد اعتبر الراحل "نجم" أن الأخوان المسلمين قد سرقوا ثورة 25 يناير من صناعها الحقيقيين، وأنهم أصلاً لم يكونوا متواجدين في الميادين، بل إنهم تسلقوا على الإنجاز الذي قام به سواهم، ووصل به الأمر إلى اتهامهم بالمسؤولية عن موقعة "الجمل"..
أياً كان موقف الشاعر السياسي، فالأمر لا يقتضي أن نحاكمه أخلاقياً على موقف لا يمت لنا بصلة، أ"حمد فؤاد نجم" لم يكن يوماً مقرباً من أي من الرؤساء الذين حكموا مصر، ولم ينج من الاعتقال في عصر أي منهم، ولربما لو كانت صحته أحسن حالاً، لما تردد "السيسي" في اعتقاله أيضاً، فالرجل كان يؤمن أنه لم يعد هنالك وجود للقائد المثالي، وقد جسد هذا في مقولته "مات المناضل المثال.. يا ميت خسارة على الرجال"..
القضية هنا ليست في "موت شاعر"الأمر الذي لا يحتاج إلى حكم أخلاقي، إنما الحكم عليه ينبغي أن يكون إبداعياً محضاً، سيما وأن ما يجري في مصر هو شأن مصري بحت، تماماً كما أن ما يجري في سوريا هو شأن سوري بحت، وبحسب المثل فإن "أهل مكة أدرى بشعابها"!
ولكن القضية تكمن في ظاهرة "طنابر الدفش" التي لا تبقي ولا تذر، وتجيّر كل مفردات الحياة السياسية والاجتماعية لخدمة مشروع إيديولوجي، تحاول أن تقصي عن الساحة كلّ من لا يتفق معه!
التعليقات (5)