لماذا لم يأتِ "بابا نويل"؟!

لماذا لم يأتِ "بابا نويل"؟!
في الشارع السوري البسيط صرنا نجد مفردات لم تكن سوى عند القراء والمثقفين مثل من يقول للطرفة في وصف حاله فيستطرف بالقول : "في انتظار غودو " كما تحضر في الأذهان رواية "بينلوبي "التي تنكث نسجها ريثما يأتي منقذها المنتظر ؛ وهي الأقرب للواقع الشعبي لو قرأناها قراءة مغايرة ؛فالنسيج الذي ينسج ماهو إلا أحلام ووعود ما تلبث أن تخيب ،فيعودون في البحث عن وعود يبنون منها حلما يشغلون به أنفسهم لتنقضي الأيام ؛ فتحولوا لورشات متواشجة ترقع حياتها بالتصبر وتحترف الحلم والسراب .

ناهيك عن الروايات الدينية التي تحكي عن قدومٍ تأخرَ للمهدي المنتظر .ويختلف إيراد الأمثلة لدى الناس بين العامي المحبط ،والمتدين فالأول يستشهد متهكما ربما بروايات الانتظار وأساطيرها ؛ أو آملا بيقين التحقق كما يثق مريد صوفي بكرامات شيخه ليأتي كمخلص أسطوري في لحظة أخيرة وحاسمة ؛ أما المتدين الذي لم يجد من عزاء له سوى تصور سلطة عليا ثالثة أقوى من الجميع تنظر وتحاكم ولها حكمتها في تأخير النصر والخلاص رغم أن المتذكر يعضُّ على شفتيه ضيقا واختناقا بهذه المحنة الصعبة .

مع قدوم رأس السنة يصبح بابا نويل شخصية مطلوبة تماما ولو للأطفال؛ لكن في بحثنا عن رغبة تتحقق أو حلم يتحرش بالمستحيل ،ربما نشطح لنقول أن بابا نويل سيُرمى على ظهره إزارٌ يثقله ليأخذ شخصية تختزل أحلام الصغار، ورغبات الكبار وحاجاتهم حتى يكاد ينوء بحمل إنساني عجزت عنه كل هيئات الأمم والمجتمع الدولي ،فيكون عليه التعويل في أن يشتغل بالإغاثة لكل النازحين في بلدانهم ومنها.

وبما أن الأمر إنساني سيقول له الأطفال حتما أن يبذل جهده في إيقاف رحى الحرب ليتمكنوا من العودة واللعب مع أولاد الجيران مما يعني أنه سيحمل ملفا عجز عنه الإبراهيمي وعنان؛ لكنه بابا نويل الإنسان بابا نويل الإنساني الذي اختار التعامل مع الأطفال وللأطفال ،البابا النقي الذي طالما أطل بلحيته الطويلة البيضاء التي وصلت حد الشيخوخة الملائكية وهداياه المفاجئة حتى أن الصغار كانوا يحبون الثلج لأنه قد يأتي ببابا نويل الشيخ الطيب.

"لا أريد أن يأتي بابا نويل فقد أموت من البرد في الثلج " تقول طفلة في المخيم فترتج الذاكرة وتنضح بالشجون والقهر ؛ما عاد الأطفال يحبون الثلج الآن فقد يموتون بردا ، وعلى بابا نويل أن يقدم شرحا أن الثلج لم يقتلهم لكنه البرد ؛ برد الطقس ،وبرد الضمير الإنساني الذي لم يترك له دورا يقوم به ،ولم يقدم له مايكفي لملئ جعبته بما يكفي أطفال سوريا المشردين ؛وما عاد الوقت يتسع ليجمع لهم ما يحتاجونه؛ ولعله تساءل كيف يدخل ويتجاوز الحدود.

بل ربما هو غارق في التفكير كيف سيتدفأ في مخيمات النزوح أو كيف يصبر على رؤية الأطفال يرتجفون بأسنان تصطك وشفاه مزرقة متشجنة ،سيؤلمه أن يرى كيف يغتال البرد ابتسامة طفلة عاش دهرا ليرسمها على الشفاه ؛ولن يقبل ضميره وروحه أن يبقى لابسا معطفه المصنوع من الفرو دون أن يقدمه لطفل المخيم.

هداياه هذه المرة ستكون رخيصة الثمن رغم أهميتها أرغفة خبز وقطع من الصمون اليابس ،وبعض لفائف الزعتر وطعام المتقشفين وعلب البسكوت ؛ لكن ربما سيكون محرجا من فراغ جعبته من حاجات كثيرة وكبيرة الحجم ،كالأغطية والفُرُش والثياب والأدوية .

لاشك سيرمي قبعته لطفل مبلل بالمطر ،ويقص لحيته لينسج منهما قفازا لطفل صغير؛ ويلتف معهم يحكي لهم حكايات وقصصا تخفف عبئ آبائهم في اختراع الحكايا والأساطير لكي يناموا حلما بغد أجمل

الدقائق تمشي والوقت يهدر نحو منحدر بلا قرار ؛ قد يرن جرس ساعة بيغبن ويوشك رأس السنة أن يفاجئنا ولم يظهر بابا نويل ،وليس من تلفزيون في المخيمات ليدرك الناس نهاية العام ،وسيمر الليل عاديا مثل توارد الخبر العاجل عن الموت في شاشات الأخبار ، كم هي الروح مسكونة بالأنين وتواقة للرنين والأجراس.

الأجراس يشتاقها الأطفال ونحن نشتاقها أيضا ، لا أجراس للكنائس تقرع في المخيمات وأجراس الوطن بعيدة أيضا ولفها السواد وربما سيضيع صوتها بين طبول الحرب و مكيدات الموت السريع التي تحملها الطائرات .

بابا نويل لن (لم ) يأت لأنه معتصم على أطراف أحد المخيمات ؛ وإذا لم يره أحد من أطفال مخيم ما؛ فلن نعتب عليه ؛بل علينا أن نبحث عنه وربما يجده أحد متسلقي الجبال على أحد القمم الشاهقة المكسوة بالثلوج ،معتزلا وناضيا ثيابه عن جسده الهزيل ،لأنه يخجل أن يبقى عاجزا عن تقديم شيء لأطفال سوريا عاريا وميتا قد تجمدت قطرات الدمع على خده ولحيته البيضاء المتوحدة مع الثلج.

ومن يظهر على الفضائيات هو بابا نويل آخر ليس يعني السوريين بشيء سوى الغصة

"بابا نويل لن يأتي لأني انتظرت أبي كثيرا ولم يأتِ" هكذا قالت طفلة وأدارت ظهرها وأولمت وجهها للغياب .

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات